قد تُحلُّ عقدة التكليف يوم الإثنين، بـ»العثور» على الشخصية التي تَقْبَل به ويُقْبَل بها: ميقاتي أو سواه. لكن قصة الحكومة، من أساسها، أكبر بكثير من مسرحية التكليف والتأليف التي باتت ممجوجة. إنّها تختصر نزاعاً معقّداً، أبعادُه داخلية وخارجية.
لو كانت القوى النافذة في السلطة تريد حكومة فاعلة، لما انتظرت 9 اشهر من المراوحة الساذجة حول وزيرٍ أو اثنين للمسيحيين أو حقيبة أو اثنتين للسُنَّة.
وتحديداً، لو أراد «حزب الله» حسم الملف الحكومي، لكان منح اللاعبين مهلة أيام ليحلّوا مشكلاتهم وينجزوا التسوية. وعلى الأرجح، لا رئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل ولا الرئيس سعد الحريري، وبينهما الرئيس نبيه بري، كانوا «سيكْسُفون» «الحزب». فما من أحدٍ فعل ذلك، منذ سنوات.
يعني هذا الكلام أنّ المراوحة في الملف الحكومي هي نتيجة قرار متعمَّد، يُراد منه أن يبقى البلد مُداراً بحكومة تصريفٍ للأعمال، يمكنها أن تختار «استنسابياً» ما تؤديه من وظائف ومهمات، وما تعفي نفسها منه أو تغسل يديها من المسؤولية عنه. وهذه صيغة مثالية للنافذين لكي يتبنّوا قرارات الحكومة عندما تناسبهم شعبياً أو سياسياً، أو يتنصّلوا منها عندما تكون غير مؤاتية.
يعني ذلك، استتباعاً، أنّ لا رغبة جدّية في استيلاد حكومة فاعلة حالياً، بمعزل عمّن يكون رئيسها، سعد الحريري أو سواه، وبمعزل عن تركيبتها وموازين القوى التي تضمُّها وحتى البرنامج الذي تضعه لنفسها. وفي لبنان، غالباً ما يكون البرنامج أو «البيان الوزاري» مجرّد إعلانٍ إنشائيٍ لا آلية تنفيذية له، أي لا قيمة.
إذاً، الحريري لم ينجح في تشكيل الحكومة، خلال 9 أشهر، ليس حصراً لأنّه ضعيف أمام باسيل، أو لأنّ الرئيس ميشال عون «مدلَّل» لدى «حزب الله». فالحريري نفسه يتلقّى أيضاً دعم «الحزب»، ومعه بري وجنبلاط وجبهة سياسية عريضة.
وكذلك، لا علاقة للكلام على «ضعف» الحريري بما يُقال عن اعتراضات أو تحفظات سعودية عن نهجه «المتساهل» مع «حزب الله»، أو عن شروط أميركية أو غربية على تركيبة حكومته العتيدة.
ففي النهاية، أي شخصية أخرى سيتمّ تكليفها التأليف في هذه الظروف، كالرئيس نجيب ميقاتي أو سواه، ستكون متساهلة كالحريري وأكثر مع «الحزب»، ويُفترض أن تواجهها تحفظات سعودية مماثلة. وأما شروط الأميركيين والغربيين فلا تعني الحريري حصراً بل تتعلق بمدى سيطرة «الحزب» على القرار والمؤسسات ككل.
الحريري لم ينجح في التأليف لأنّ «حزب الله» وحلفاءه مستفيدون من وضعية الفراغ أو تصريف الأعمال، ولا يحبذون أن يُدار البلد حالياً بحكومة مكتملة الصلاحيات. فذلك يفرض عليهم مستتبعات سياسية وغير سياسية حسّاسة، داخلية وإقليمية، لم تنضج اللحظة لاتخاذ قرارات حاسمة في شأنها.
وفي العادة، تُستخدم وضعيات الفراغ أو الأزمات الحكومية أو الاستحقاقات الانتخابية، في كثير من الدول، من أجل المناورة وتأجيل اتخاذ خيارات حاسمة. ومن النماذج أخيراً إيران وإسرائيل.
على مدى أشهر، سمحت وضعية الفراغ الحكومي في لبنان أو تصريف الأعمال بتأجيل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بما يمكن أن تفرضه من مترتبات سياسية. كما سمحت لمنظومة السلطة بخلق ذرائع لتجنب الإصلاح وإنتاج حلول حقيقية للأزمة. وفي حال استمرار هذه الوضعية، فإنّها قد تسمح بتبرير «تطيير» الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، النيابية والرئاسية، إذا اقتضت مصالح الأقوياء ذلك.
في عبارة أكثر دقّة، اللحظة الإقليمية ليست مناسبة لحسم ملف الحكومة، لأنّه يرتبط بمسألة السيطرة على القرار في لبنان. وإذا لم يكن قرار الحكومة في يد «حزب الله» في شكل مطلق، فلن تكون لـ»الحزب» مصلحة بوجود حكومة، أو سلطة مركزية قوية.
لا مصلحة لـ»الحزب» في أن تكون حكومة كهذه في موقع قوة، لأنّ ذلك سيجعله في موقع أضعف. وهو يخشى أن تستند الحكومة إلى دعم خصومه العرب والغربيين الذين يحرّضون على فكّ ارتباط «الحزب» بالمؤسسات. ولذلك، هو يفضّل بقاء البلد بلا حكومة فاعلة، حتى إشعار آخر، وتحديداً حتى ظهور ملامح المفاوضات الدائرة بين الولايات المتحدة وإيران.
والمأزق اللبناني يكمن في أنّ لا مؤشرات إلى اتفاق أميركي- إيراني قريب. وفي الانتظار، يفضّل «الحزب» عدم الإفراج عن حكومة جديدة، والاستمرار في لعبة إمرار الوقت.
أي، ربما يذهب الحريري من التكليف ويأتي ميقاتي، لكن التأليف يبقى عالقاً عند العُقد إيّاها. ولا مبررات منطقية يمكن أن تسمح لميقاتي بتحقيق ما عجز عنه الحريري، ما دامت المعطيات والمواقف والمواقع لم تتبدّل.
هنا يُطرَح سؤال منطقي: ما دام مكتوباً لأي كان أن يفشل في التأليف، فهذا يعني أنّ الحريري ليس مسؤولاً حصراً عن الفشل. إذاً، لماذا قرَّر الخروج من اللعبة، ومنح خصومه السياسيين فرصة القول إنّه هو العقدة؟
في اعتقاد البعض، أنّ خروج الحريري يُراد منه تنفيس الاحتقان الشعبي الهائل، نتيجة المأزق النقدي والمالي والاقتصادي الذي يقترب من الأسوأ وبدرجات خطرة. ولتنفيس الغضب الذي أعقب قرار القاضي طارق البيطار بالاستدعاءات وتداعياته. ولتطويق أي نقمة ستنفجر في 4 آب المقبل، وقد تخلق موجة عاتية تزعزع كثيراً من المواقع وتليها موجات.
أصحاب هذا الرأي يقولون: هناك قرار بتحييد الحريري، وبرضاه ربما، بحيث ينصرف إلى ترتيب شؤون البيت في الفترة المقبلة. وفي الانتظار، قد يأخذ ميقاتي دوراً على الخشبة، لتمضية مزيد من الوقت المستقطع. ولكن، الكل ينسّق مع الكل. ولا أحد يتصرّف بمفرده و»مِن رأسه».
لا مبررات منطقية يمكن أن تسمح لميقاتي بتحقيق ما عجز عنه الحريري ما دامت المعطيات والمواقف والمواقع لم تتبدّل.