عام مشؤوم، حدّثني قلبي كثيراً أنّه سيكون كذلك من قبل أن يحلّ علينا، ولم أستقبله كما استقبلت الأعوام الثلاث التي سبقته بعنوان «تأبّط شرّاً»، الـ 2020 عامٌ لم أجرؤ حتى على استقباله ولا على كتابة حرف معايدة فيه لأحد، توجّستُ منه خيفة كثيراً، وكنتُ أهجسُ بالموت كأنّه ظلّ يخيّم على قلبي لا يفارقه ولم أعرف لماذا، ظننتُ أنني إن تجاهلته سيتجاهلني، ولكن..
ظهيرة 2 كانون الثاني لم أصدّق خبراً هزّ العالم العربي معلناً وفاة نجوى قاسم، وبالرّغم من إيماني الكبير خصوصاً في مواقف الموت والتسليم التامّ لمشيئة الله كان عقلي عاجزاً عن التصديق، كنتُ كمن يدور حول نفسه، رغبتُ بشدّة أن يكون شائعة أو خبراً كاذباً، اتصلتُ بها لم يجب أحد، أعدتُ الكرّة بعد دقائق جاءني من دُبي صوت الزميلة ريما يشهق بالبكاء.. لحظتها سلّمتُ بأنّ نجوى «ماتت» كما يقولون.. استبدّ بي بكاء جارح، وجدتني أمسك هاتفي وأكتب رسالة لنجوى عبر الواتس أب «نجوى يا صديقتي.. كنتُ أعرف أنّه سيكون عاماً شريراً.. لم يخطر لي أنّك ستكونين أوّل أوّل قامة وقيمة وطيبة يحصدها.. بين يديْ رحمن رحيم وفي شفاعة رسول الله يا حبيبة القلب رحمك الله بواسع رحته وغفر لك وأدخلك برحمته في عباده الصّالحين..»، رسالة على غير عادة نجوى التي تردّ عليّ في أي مكان وزمان، هذه رسالة ستبقى من دون إجابة، لكن كلّي يقين أنّها وصلتها.
اليوم يمرّ أربعون يوماً على مواراة نجوى قاسم في تراب بلدتها جون، لم يهدأ روعي بعد ـ ولا أظنّه سيهدأ قبل وقت طويل ـ لفقد صديقة غالية وزميلة رافقت خطواتها منذ بداياتها الأولى، ليست نجوى قاسم إعلاميّة ومقدّمة برامج سياسيّة أو مراسلة حربيّة أو حتى «قطعة كريستال» الشاشة ولا «زهرة بيلسان»، نجوى التي عرفتها كانت عائدة لتوّها من بغداد بُعيد سقوط المدينة وانتهاء الحرب عام 2003، كان الموقف الأوّل بيننا عندما جلسنا معاً لأحاورها في أوّل لقاء صحافي لها (مجلة نادين) في نيسان العام 2003، أدهشتني بجرأتها وسعة اطّلاعها، كانت تمضي وقتها في القراءة والبحث والاطلاع على كلّ ملفّا العالم الساخنة والباردة، كنّا جميعاً على وشك أن ندرك أنّ حجم نجوى قاسم الإعلامي بات أكبر بكثير من مساحة شاشات لبنان المحليّة، وجاءت العربية التي كانت انطلاقتها مع حرب العراق، لتحمل الموقف الثاني بيننا..
في هذه المهنة «أولاد حلال» ـ محبّين ثرثارين وغير محبين ثرثارين ـ يأخذون على عاتقهم تزويدك بخبر ما والأمر متروك لضميرك المهني لتعرف هل يريدون خيراً أم شرّاً بالمعني بالخبر.. كان الخبر كلمات قليلة «نجوى قاسم موجودة في دبي تتفاوض مع العربيّة على الانتقال إليها، وأنها في بيروت أعلنت أنها في إجازة قصيرة لمراجعة طبيب الأسنان… فلانة اتصلت بي وأخبرتني»، وعادة لا ينسى ناقلو الأخبار أن يذكّروك بأنّو «بيناتنا»، راجعتُ ضميري وفهمتُ على الفور أنّ المطلوب نشر الخبر لتعكير الأجواء حول مفاوضات نجوى مع العربية عسى أن تتم عرقلة انتقالها إليها، ففي دبي من يخاف من دخولها المحطة، وفي بيروت من هو مريض بالغيرة من تفوّقها إلى حدّ بغيض.. وفي هذه المهنة اخترت أن يكون خطّي المستقيم هو أقصر طريق بين تقطتين، أخذت هاتفي وطلبتُ نجوى، قلتُ مباشرةً بلغني هذا الخبر بتفاصيله، لم تسأل نجوى عن الشخص بل عن «خطّ سير الخبر»، قلتُ من دبي إلى بيروت، نجوى قاسم مترفّعة راقية تحترم نفسها أوّلاً والآخر الذي شرعت في ترك خيوط صداقة تنسج بينها وبينه، لم تسأل نجوى أبداً عن اسم الطرفين المعنيّين بتسريب الخبر للشوشرة عليها، واحترمت فيها احترامه لنفسها هذا إلى أبعد الحدود، لا هي سألت ولا أنا قلت، لكنّها شرحت لي كلّ التفاصيل وأطلعتني أنها وقّعت العقد وأن موعد انتقالها إلى دبي قريب، وطلبت منّي أن احتفظ بالمعلومات إلى حين..
طوال عمر هذه الصداقة ائتمنتي نجوى على دردشاتنا ورسائلنا المتبادلة، تابعتها منذ لحظة انتقالها وإطلالتها الأولى على شاشة العربية، استبدّ بي القلق عندما انتقلت إلى العربية في العاصمة العراقي بغداد، لم تترك نجوى رقم هاتف بإمكاني أن أتواصل معها عبره في بغداد إلا وتركته لي، لطفَ الله بنجوى قاسم أنقذتها العناية الإلهية من تفجير مبنى مقرّ العربيّة في بغداد بسيارة مفخخة، أمدّ الله بعمر نجوى حتى 2 كانون الثاني 2020، في هذه السنوات الستة عشر استطاعت نجوى أن تحقّق مكانتها الكبرى في عالم الإعلام العربي، أن تصبح إعلاميّة مرتبطة مباشرة بحبّ الشعوب العربيّة، وآخر كانت محبة الشعب السوداني الذي رغب بحضور نجوى وتغطيتها شخصيّاً لتوقيع اتفاقية المصالحة في الخرطوم.
تمر اليوم الذكرى الأربعون على خسارة العالم العربي الثقيلة للإعلامية العربية الرقم 1، التي كبر حجمها ومكانتها وخبرتها لتصبح أكبر من مساحة الشاشات العربيّة، قدّر الله لها أن ترحل وهي في القمّة، أربعون وما يزال الحزن يخيّم على جمهور نجوى قاسم، سيمرّ وقت طويل ولن يتاح للإعلام العربي أن يحظى بقامة إعلامية كنجوى قاسم متواضعة إلى حدّ اعتبرت فيها نفسها دائماً جسراً بين الخبر والمشاهد.