IMLebanon

أسماء وأفعال

 

من أبرز  مظاهر الوراثة السياسية في لبنان أن الأبناء والأحفاد يرثون الموقع والجاه والنيابة والوزارة  وحتى الأسماء، ولكنهم قلما يرثون الأفعال، والمزايا والقيم والتواضع والظُرَف.

 

وباستثناء قلة منهم، ولن نذكر الأسماء ونعددها، يمكن القول إنّ هوة عميقة تفصل ما بين المورث والوريث. ونترك  للقارئ أن يستحضر، في ذاكرته، المشهد السياسي كما كان… وكما آل إليه في الزمن الهجين الراهن. وطبعاً الأجيال الشابة لم يتسنّ لها أن تعرف قادة الزمن الجميل إلاّ أنها قرأت عنهم أو سمعت روايات الأهل.

 

بداية كانت المجالس حافلة بالأنس والإيجابية والانفتاح. ولم تكن ثمة حواجز بين الزعماء الكبار والناس. وقدر ما كانت الأبواب مفتوحة كانت أيضاً القلوب مفتوحة.

 

يأتي المواطن زائراً فيدخل مباشرة على الزعيم في مجلسه. فلا حواجز ولا موانع ولا مواقع يجب أن يمرّ بها الزائر  في هذه الأيام، بدءاً بهدر أشهر طويلة للحصول على الموعد. ثم الانتظار ساعات  قبل أن يؤذن له بالحضور أمام صاحب الطلّة البهية، مروراً بأمانة السر، فالسكرتيرة الشخصية، فالمستشار.

 

كانوا متواضعين، منفتحين على إثارة المسائل والقضايا ورفع المطالب. وكان بعض الزعماء يعرف الزائر «حِلّةً ونسباً». فيسأله عن أبنائه أو إخوانه (و ..)  بالأسماء. ويستعلم عن أوضاعه الاجتماعية، وربما سأله عن أحوال جيرانه وأيضاً عن ذويه في المهجر الخ…

 

 

مجلس الرئيس المرحوم  صائب سلام كان عنواناً لــ «لبنان واحد لا لبنانان» وسوى ذلك من الشعارات المهمة: «خفت على اللبنانيين من الاختناق لشدة العناق». وهي شعارات تعبّر بصدق عن الوحدة الوطنية. مجلس الرئيس المرحوم صبري حمادة كان يجتمع فيه الظرف والرصانة في آنٍ معاً، وكان الحضور يعرفون بداهة أن الرجل ابن بيئته التي من أبرز معالمها المحبة والتسامح والقيم الأهلية: أنتَ في بيتي، بحمايتي، ولو كنت قتلت أعز الناس لدي. أمّا مجلس المرحوم العميد ريمون إده فيشع ذكاءً وسرعة بديهة وديموقراطية صحيحة، لدرجة أنه كان يستشيرنا (نحن الصحافيين) في كل كبيرة وصغيرة وعند الاختلاف في الرأي يلجأ الى التصويت  ويتبنى رأي الأكثرية الذي سيعتمده في مجلس النواب بعد أن نتوجه وإياه، سوياً، سيراً  على الأقدام الى ساحة النجمة.

 

وأما مجلس المرحوم كمال جنبلاط فكانت تغلب عليه الروحانية أحياناً كثيرة خصوصاً عندما يكون قد عاد من إجازته السنوية في الهند (تمتد شهراً) حيث يلتقي «المعلّم» ويتخلل المجلس نصائح حول مضار اللحم الأحمر وفوائد ساق نبات القمح الخ… وأما المرحوم الشهيد رشيد كرامي فإن مجلسه كثيراً ما يتناول مالية الدولة والحرص على المال العام وعدم الإنفاق «إلا في موضعه الضروري» وكلامه على «هذا البلد» (يقصد لبنان الذي قلما كان يذكره بالاسم). والرئيس المرحوم كميل شمعون كثيراً ما كان يستشهد بأبيات الشعر بالفرنسية والعربية وكان يحفظ منها الآلاف عن ظاهر قلب، لينتقل الرئيس الى الصيد، وليشهر إصبعه الوسطى أحياناً غير قليلة مرفقة بلفظة معروفة!

 

وفي الودّ  أن نتحدث عن الكثيرين من  ذلك الجيل الرائع أمثال المرحومين كامل الأسعد وشارل حلو والحاج حسين العويني وعبد الله اليافي وسليمان فرنجية ورينيه معوض والأب سمعان الدويهي وسيمون بولس وجوزيف سكاف وبيار الجميل وفؤاد بطرس والكثيرين سواهم ممن شاء حسن الطالع أن نعرفهم عن قرب وقد تكون ثمة عودة اليهم، علماً أنه يمكن كتابة المجلدات عن مجالسهم جميعاً…

 

أما  أظرف الظرفاء في لبنان فذكر اسمه يفاجئ الكثيرين وهو الرئيس الدكتور سليم الحص ضمير لبنان حفظه الله وأمد في عمره… وقد قدر لي أن أكون في معيته في رحلتين طويلتين الى خارج لبنان… إنه سيد من أطلق النكتة، ومن استولدها نكتاً لا حدود لها. ما لا يدل إليه مظهره الجاد جداً. وهو الذي يشرفني أنني حظيت بثقته وبشهادة منه في رسالة خطية أعتز بها..