ليس على أقطاب الموارنة أن يعتقدوا أنّهم بعضلاتهم أحبَطوا الصفقة الرئاسية. فهذه الصفقة كانت ستمشي لو لم يكن فيها أساساً عطل إقليمي. فوكلاء السعودية وإيران لا يسألون عن أحد عندما يُقرّرون السير في الصفقات الجاهزة.
لو كانت إيران تريد تمرير الصفقة، لكان «حزب الله» أرضى العماد ميشال عون بمكافآت يصعب رفضها، وسار بجلسة انتخاب النائب سليمان فرنجية، على غرار إصراره على التمديد للمجلس والجلسة التشريعية وسواهما.
وقد تفاجئ إيران الجميع، فتدخل الصفقة في أيّ لحظة، وتتبنّى فرنجية أو سواه، وتقنِع عون، وتحظى بمباركة بكركي وقوى مسيحية، وتترك الدكتور سمير جعجع وآخرين في صف المقاطعة أو المعارضة… ويمشي القطار!
ولكن، لماذا يعترض الإيرانيون على الصفقة؟
لا غُبار إطلاقاً على فرنجية من جانب إيران وحلفائها. وهم لا يُسجّلون عليه أيّ هفوة سياسية في أيّ يوم، لا في التكتيك ولا الاستراتيجيا. ولكنّهم يعبّرون صراحةً عن خوفهم من طبخةٍ وراء إصرار الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط.
البعض يعتقد أنّ خوف الإيرانيين مصطنَع، لإبعاد «الشبهة» عنهم بأنّهم عَقدوا صفقةً على حساب عون. فإذا نجحَت المحاولة مسيحياً، وتنازلَ عون لفرنجية، يكشف «حزب الله» دعمَه للتسوية ويسير بها. وإذا فشلَت، يحافظ على ثقة عون به، ويستمرّ الترقّب.
لكنّ هذا التصوُّر ينفيه المطّلعون، ويجزمون بأنّ هناك محاولة من بعض المحور السعودي للّعب على ما يظنّ أنّه تمايز في المواقف والمصالح بين إيران وروسيا، وتالياً بين «حزب الله» والرئيس بشّار الأسد، بعد التدخُّل العسكري الروسي المباشر في سوريا.
ويقول هؤلاء: فشلت إيران في التكفّل تماماً بحماية الأسد من السقوط. وعلى رغم الجهود والتضحيات التي يقدّمها الحرس الثوري الإيراني و»حزب الله»، فإنّ التدخل التركي الصامت كاد يطيح التوازنات العسكرية في سوريا ويُسقِط المعقل العلوي ويهدّد المناطق الأسدية الأخرى وصولاً إلى العاصمة.
ولولا التدخّل الروسي الطارئ، سياسياً ثمّ عسكرياً، لَما استطاع الأسد الصمود والمفاوضة على موقعِه في التسوية ومستقبل سوريا.
وخلال الصيف الفائت، حاولت موسكو الإفادة من تجديد القيادة في السعودية، ومدّت جسور التواصل ديبلوماسياً وأمنياً ودفاعياً معها حول ملفات اليمن والعراق وسوريا. والملف اليمني هو الأكثر إلحاحاً في الرياض لأنه يهدِّد استقرار المملكة ذاتها وسائر المنظومة الخليجية.
وقدّم الروس وعداً للرياض بإطلاق يدها في التسوية اليمنية، وبوقف إيران محاولاتها للمسّ بأمن السعودية والخليج. وفي المقابل، جرى التوافق على أن يحظى الروس بدعم السعودية في مسعاهم إلى إنجاز تسوية سياسية في سوريا، تعيد إليها وحدتها، وتنهي اقتطاع «داعش» لجزء شاسع من سوريا والعراق.
وأغرَى الروس السعودية بتسوية تقضي بالاعتراف بدور للمعارضة السورية المعتدلة عن طريق حكومة وحدة وطنية، على أن يبقى الأسد في الحكم مرحلياً خلال فترة التسوية، ثمّ يقرِّر المفاوضون السوريون هل يرحل نهائياً أم يبقى رمزياً منزوع الصلاحيات أم يعاد انتخابه ديموقراطياً في ظلّ حكومة واسعة الصلاحيات؟
التسوية السوريّة يصفها المتابعون بأنّها «طائف سوري». وتحت هذا العنوان انطلق مؤتمر فيينا. لكنّه اصطدم بالخلاف على مستقبل الأسد.
ويشرَح ديبلوماسي روسي رفيع في بيروت لـ«الجمهورية» فحوى الاتصالات مع السعودية، في الصيف الفائت، بالقول: إنّ هدف موسكو الأساسي هو منع تقسيم سوريا.
فالمخاطر على وحدة هذا البلد بلغَت حدّاً كبيراً. لذلك، لا يمكن إدراج أهدافنا تحت عنوان الحفاظ على الأسد كنظام، بل الحفاظ عليه كرأس للدولة وضمانة لوحدتها. وبعد ذلك، يعود إلى السوريين أن يقرِّروا مستقبل الحكم في بلادهم.
ويقول المطّلعون إن موسكو ستقاتل لمنع نشوء دويلات إسلامية متطرفة في الشرق الأوسط لأنّ من شأن ذلك تحريض الشعوب المسلمة في الاتحاد الروسي على إعلان استقلالها أيضاً.
وهنا يلتقي السعوديون مع الهدف الروسي، لأنّهم أيضاً متضرّرون من تفتُّت سوريا والعراق. فاليمن سيكون الحلقة التالية، وستخوض دول الخليج العربي مواجهة حقيقية ذات طابع كياني. ولذلك، وافقَ السعوديون على تغطية الجهود التي تقوم بها موسكو ضد «داعش»، كما تلقّوا وعوداً من موسكو بالمساعدة في تقديم المعلومات الأمنية، بما يضيِّق على هذا التنظيم سعيَه إلى زعزعة استقرار المملكة.
وتنفيذاً للتفاهم السعودي – الروسي، دفعَت الرياض في اتجاه التسوية في سوريا وشجّعت المعارضة المعتدلة على السير فيها، وتلقّت دعمَ مصر. لكنّ ذلك قوبل بمحاولة تركية للتعطيل.
وحاول الأتراك الاحتماء بالولايات المتحدة، فأوحوا باستعدادهم لضرب «داعش»، ووضعوا قاعدة إنجرليك في التصرّف. لكنّ ذلك كان ذريعةً لضرب اليقظة الكردية على الحدود وفي الداخل التركي. وهدَّد الأتراك باجتياح شمال سوريا، ما يعني ضمناً تصفية معاقل الأسد.
كانت اللعبة لعبة وقت، فسارَع الروس إلى مفاجأة الجميع بالتدخّل عسكرياً، وعطّلوا الدور التركي. وضمناً، لم يعترض السعوديون على التدخّل الروسي ما دام تحت سقف التفاهم.
ولكن، برزت توجّهات لدى البعض داخل المحور السعودي تقول بالآتي: إنّ روسيا هي التي باتت تحمي الأسد. وظهر للرئيس السوري أنّ اعتماده على الإيرانيين و»حزب الله» لم يكن كافياً، ولولا التدخّل العسكري الروسي الطارئ لتعرَّض لخطر مؤكّد.
ولذلك، في رأي هؤلاء، بات الأسد اليوم في يد روسيا لا في يد إيران. وإذا تمّ التفاهم مع روسيا، لا مع إيران، فسيكون ممكناً إنجاز التسوية في سوريا.
وفي هذا الإطار، جاء طرْحُ البعض صفقة رئاسية في لبنان توصِل فرنجية، حليف الأسد، إلى بعبدا، وليس عون، حليف «حزب الله»، أي إيران.
ويَفترض أصحاب هذا الرأي أنّ الأسد بات يتمايز في التوجهات والمصالح عن إيران.
ولذلك، يمكن الإفادة من هذا التمايز في صياغة تسوية تناسب المحور السعودي. وما رشَح عن اتصال بوغدانوف – عبداللهيان الأخير أوحى بتحفّظ إيراني على التسوية الرئاسية مقابل عدم ممانعة روسيّة.
وترجمة ذلك أنّ إيران ربّما لم تصل إلى اللحظة التي تريد فيها ملء الفراغ الرئاسي في لبنان، فيما الروس يرغبون في تقديم مبادرة تُوحي للمجتمع الدولي بأنّهم ليسوا «دولة مشاكسة» كإيران، بل هم شركاء في حماية التسويات السياسية والاستقرار في دوَل الشرق الأوسط.
وأصحاب هذه المقولة يعتقدون أنّ وصول حليف للأسد إلى رئاسة الجمهورية في لبنان ليس خطراً ما دام الأسد سيرحل بعد التسوية هناك. وفي أيّ حال، سيكون نفوذه محصوراً بسوريا ولن يتجاوزها إلى لبنان.
ومن هنا، جاء طرح الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط للتسوية. ويمكن لهذا الطرح أن يقود الحريري إلى السلطة ليمسك بالقاعدة السنّية ويمنعها من الانجرار نحو التطرّف. لكنّ التسوية اصطدمت برفض إيران، لاشتباهِها بأنّ الطبخة ربّما تكون مسمومة، من دون عِلم فرنجية طبعاً.
ويقول المطّلعون: مَن طبَخ طبخة فرنجية الرئاسية هو داهية فعلاً. فكيف خطرَت له الفكرة التي لا يمكن لإيران ولا للسعودية ولا لأحد في الداخل أن يبرِّر رفضَه لها؟
ولكن، ربّما لم يتوقع هذا الداهية أن يرفض حلفاء فرنجية وصوله إلى بعبدا، أو أن يتكتّل ثلاثة من زعماء المسيحيين ضد الرابع. ولم يتحسّب لاحتمال أن تنتفضَ إيران وتقول: لا تمرّ صفقة في لبنان إلّا بتوقيعي… ولو كان بطلها فرنجية!
الأرجح، سيعود الضغط نحو التسوية في لحظة نضوج الخيارات، ولكن بعد الأخذ بصيغة تُرضي الأقوياء جميعاً. وفي أيّ حال، سيُخطئ المراهنون على الدخول بين الأسد و»حزب الله» أو بين موسكو وطهران. فالحلف الروسي – الإيراني توحِّده المصالح والأهداف، وهي واضحة. وأمّا التمايز فهو مجرّد تكتيك، ولا يُفسد التماسك الاستراتيجي.