IMLebanon

مفاوضات الناقورة مسموح بتفجيرها؟

 

«مِن أوَّل دْخولها» وصلت مفاوضات الناقورة إلى سنّ اليأس. فالوفدان اللبناني والإسرائيلي جاءا للتفاوض على بقعة الـ865 كيلومتراً مربعاً، ولكن سرعان ما ظهرت خرائطهما «الطموحة» خارجها. وثمة مَن يقول: في جلسة اليوم، إذا لم يحمل الوسيط الأميركي طروحات تسووية يقبلها الطرفان، فالمفاوضات قد تنفجر وتتعطّل. لكن آخرين يجزمون: «اطْمئِنّوا. الفشل ممنوع، أياً كانت العراقيل».

ليست مفاوضات الناقورة مسألة محدودة بالترسيم بين لبنان وإسرائيل، بل إنّ لها أبعاداً أوسع بكثير. وهي لو كانت محصورة بهذين الطرفين وحدهما، لما حصلت على الأرجح، وإنْ كانا يحتاجان إلى الترسيم واستثمار الغاز والنفط لضرورات اقتصادية حيوية.

 

في توصيف أكثر دقّة، إسرائيل متحمِّسة للتفاوض وإنجاز الترسيم سريعاً، ولبنان أيضاً في أمسّ الحاجة إلى مخزوناته الغازية ليتجاوز أزمته الخانقة، لكن القرار اللبناني ليس موجوداً في بيروت وحدها، ولا بدّ من الضوء الأخضر الإيراني.

 

إلّا أنّ الضوء الأخضر هو ورقة تستخدمها طهران في صراعها مع الأميركيين. ولا يمكن أن تكون إيران قد أفرجت عن المفاوضات إلّا في واحدة من حالين: إما هناك تفاهم شامل إيراني- أميركي بدأ يتكوَّن خلف الستارة، وإما هناك رضوخ إيراني للضغط الأميركي.

 

المتابعون يعتقدون أنّ إيران، عبر «حزب الله»، سمحت للبنان بأن يدخل المفاوضات مع إسرائيل في الوقت الأميركي الضائع، بحيث يجري تنفيس الضغوط التي تُمارَس عليه. وعندما ينطلق العهد الأميركي الجديد يتمّ حسم الخيارات باستمرار التفاوض أو التعطيل أو إنجاز الاتفاق.

 

لذلك، لا تريد إيران أن تصل بملف الناقورة إلى خواتيمه. وهذه سياستها في كل الملفات اللبنانية الساخنة: تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة «لا معلَّق ولا مطلَّق» أيضاً، وكذلك المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وملفات أخرى. ولذلك، يعتمد «حزب الله» مواقف مُتحفِّظة أو متأرجحة في هذه الملفات، بين الدعم والاعتراض.

 

في الناقورة، بدا «الحزب»، منذ اللحظة الأولى، مستعداً للطعن في المفاوضات. فأظهر ميلاً إلى «شيطنة» الوفد المفاوض، لأنّه ضمّ مدنيين. وهو اليوم مرتاح إلى رمي خريطة لبنانية «موسَّعة» على طاولة المفاوضات، بحيث تشمل أجزاء وافية من حقول الغاز الإسرائيلية.

 

في النتيجة، إذا لم يتنازل الإسرائيليون عن هذه الحقول، كما يرجِّح كثيرون، فسيحصل «الحزب» تلقائياً على عنوان جديد لاستمرار احتفاظه بالسلاح. أي، ستكون له «مَزارع شبعا بَحْرية»، خصوصاً إذا شاءت الظروف ضياع «مَزارع شبعا البَرّية» في مفاوضات محتملة وترسيم حدود بين سوريا وإسرائيل.

 

في تقدير بعض الخبراء، هذه الرؤية للمفاوضات صحيحة، ولكن يجدر النظر إلى ما يجري في الناقورة بمنظار أوسع لتظهير كامل الصورة. ففي الواقع، تحظى هذه المفاوضات بتوافق إقليمي ودولي واسع، وهي تُعبِّر عن تشابك مصالح كبرى، والأرجح أنّ إيران ليست في منأى عنها. ولذلك، لن يقوم لبنان أو أي طرف فيه بتعطيل المفاوضات، وسيتمّ إنجاز اتفاق على ترسيم الحدود ضمن حدود زمنية مقبولة.

 

ما هي ملامح التوافق الإقليمي- الدولي الواسع، الذي تندرج مفاوضات الناقورة في سياقه؟

 

الخبراء يربطون مفاوضات الناقورة بالصراع الكبير الجاري حول المخزونات الغازية في العالم، انطلاقاً من كون الغاز الطبيعي هو الطاقة غير المتجددة الأقل تلويثاً والأكثر توافراً تحت اليابسة والبحار والمحيطات.

 

فاكتشاف المخزونات الغازية الهائلة في شرق البحر الأبيض المتوسط، جعل البقعة الممتدة من مصر وشمال إفريقيا إلى الأردن وإسرائيل ولبنان وسوريا وتركيا وصولاً إلى جنوب أوروبا منطقة تسابق ساخنة على مصادر الغاز وخطوط إمدادها. وفي هذا المجال، يتَّضح جوهر المشروع الامبراطوري الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

 

بين البيئة المنتجة للغاز (روسيا وأذربيجان والشرق الأوسط) والبيئة المستهلكة له (أوروبا الغربية خصوصاً)، هناك الطرف الثالث الذي يتولّى عملية النقل، أي إمرار أنابيب الغاز في أرضه. وهذا الطرف يمكنه الحصول على حصَّة وازنة من عمليات التصدير والاستيراد، عبر خطوط متعددة، ويكرِّس دوره كـ»حنفية» تتحَّكم بالمنتجين والمستهلكين على حدّ سواء.

 

الأتراك هم الأكثر ملاءمة للاضطلاع بهذا الدور. ويريد أردوغان استثمار الموقع الجغرافي وتحويله مصدر قوة لبناء زعامة عالمية. ولذلك، هو بادر إلى التدخّل عسكرياً في ليبيا وترسيم الحدود البحرية معها. كما بدأ بالتحضير لمدّ أنبوب للغاز من أذربيجان إلى تركيا فأوروبا.

 

هذا «التعملق» التركي اصطدم بمصالح غالبية القوى الإقليمية والدولية، ولاسيما فرنسا وحلفاءها في المنتدى المتوسطي (إسرائيل، مصر، الأردن، اليونان، قبرص، إيطاليا…). وأصبح المتوسط بؤرة تتقاطع فيها مشاريع أنابيب الغاز التركية والأورو- متوسطية، وظهرت فيه ملامح احتكاكات عسكرية في الأسابيع الأخيرة.

 

ويمكن تفسير الاستنفار الفرنسي في لبنان وكامل المنطقة، وفي أرمينيا، باعتباره جزءاً من هذه المواجهة. وكذلك حروب أردوغان المفتوحة، من ليبيا إلى اليونان وأذربيجان إلى الداخل الفرنسي. الجميع مضطر إلى الانخراط في المعركة، لأنّ الأمر يتعلق بتوزيع حصص تبلغ قيمتها آلاف مليارات الدولارات، ومن شأنها أن تجعل من أي دولة عملاقاً إقليمياً. وهذه فرصة سانحة لكثيرين، ولاسيما تركيا وإيران، وطبعاً إسرائيل.

 

أساساً، تريد إسرائيل أن تكرِّس نفسها جسر العبور الأفضل بين الشرق الأوسط والعالم العربي من جهة، وأوروبا من جهة أخرى. وتريد «القوطبة» على أي محاولة تقوم بها دولة أخرى، ومنها تركيا. وهي تستعجل تعبيد الطريق لمدّ الأنبوب المتوسطي نحو أوروبا.

 

هنا تصبح مفاوضات الناقورة ركناً أساسياً من المواجهة لسببين على الأقل: أولاً لحسم الحدود البحرية مع لبنان، ما يسهِّل مرور الخط البحري في مناطق محسوم الخلاف عليها. وثانياً لجذب لبنان وموارده الغازية إلى المنتدى المتوسطي لا سواه.

 

ولذلك، تحظى مفاوضات الناقورة بتغطية إقليمية واسعة، ومن الصعب القبول بتعطيلها أياً كانت الذرائع، لأنّها ترتبط بشبكة المصالح الكبرى.

 

هل يعرف لبنان «قيمته» في هذه المعمعة الهائلة؟ أي، هل يدرك كيف يحوِّل الغاز والنفط إلى عنصر قوة، أم يجعل منها مادة إضافية للتصارع على موارده وفوق أرضه؟