طارت الجلسة السادسة من المفاوضات لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل التي كان يرغب الراعي والمسهل الاميركي في عقدها عندما وجّه الدعوة الى الجانبين الى محادثات تمتد ليومين. وان كان السبب الظاهر هو رفض الوفد اللبناني العودة الى منطقة الـ 860 كيلومتراً فإنّ هناك اسبابا أخرى سدّت الطريق الى المفاوضات. والأخطر ان «وصل الوفد اللبناني المفاوض الى «نص البير، وهناك من قطع الحبل به»؟ . فكيف تم التوصل الى هذه المعادلة؟
لم يكن أحد من المراقبين العارفين بكثير من تفاصيل ما جرى في جلسة المفاوضات الخامسة غير المباشرة يتوقع ان تستمر المفاوضات لتنتقل الى السادسة منها. فالشروط الاميركية والإسرائيلية التي كبّلت الوفد اللبناني في الجولة الثانية منها بعد ظهر امس أعطت انطباعاً بعدم قدرة الوفد اللبناني على الاستمرار في المفاوضات في ظل التعنت الذي واجهه بالعودة الى ما كان قائماً عام 2012 بالنسبة الى المنطقة المتنازع عليها، وهو لم يكن مستعداً لهذه المواجهة لألف سبب وسبب ومنعاً لوقوعه في حال من التناقض أوصَلته اليها القيادة السياسية للمفاوضات ووضَعته في موقف حرج جداً.
وبعيداً من الكلام المنمّق الذي تستخدمه السلطة السياسية في بياناتها الرسمية التي تتحكم بالمفاوضات الجارية، فقد ظهر انّ الاسباب التي أوصلت المفاوضات الى هذه المرحلة تكمن في موقف الوفد اللبناني الذي جهد في اعادة شرح الظروف التي ادت الى تمسّكه بالخط الجديد المؤدي الى النقطة 29 وفقاً لما نصت عليه إتفاقية البحار ومختلف الإحداثيات العلمية التي استند اليها، ولم يكن قادراً على الدفاع عنه لسبب بسيط مفاده انّ النقطة 29 ليست مسجلة لدى الدوائر المعنية في الامم المتحدة، وان الترتيبات التي اتخذت لتعديل المرسوم 6433 لم تكتمل فصولاً.
ولذلك جاء إصرار الجانبين الاميركي والاسرائيلي على الخطوط القديمة، ليسرقا الحق القانوني من الوفد اللبناني من اجل حصر المفاوضات بين نقطتين مسجلتين لدى الدوائر الاممية وهما النقطة واحد والنقطة 23، وهو ما اعاد تكوين المنطقة المتنازع عليها كما كانت من قبل، وتحديداً عند توقف المفاوضات عام 2012 مع الوسيط الاميركي فريدريك هوف. وعليه، باتت النقطة 29 نقطة وهمية تشبه الى حد بعيد في مواصفاتها القانونية والدولية والعلمية مسار الخط 310 الذي تحدثت عنه اسرائيل في إعلامها، ولم تأت به الى طاولة المفاوضات لافتقادها ما تستند اليه من كل الجوانب القانونية والعلمية والأممية.
وإن تعمّقَ العارفون في البحث عن الأسباب المخفية على جزء من اللبنانيين التي عطلت المفاوضات وأعاقت الوفد اللبناني عن تحقيق ما اراده من حقوق لبنان البحرية يكتشفون انّ السبب هو في اصرار القيادة السياسية التي تدير المفاوضات على استخدام المرسوم 6433 في سوق المقايضات الديبلوماسية اللبنانية – الاميركية سواء للعودة عن العقوبات السابقة التي فرضتها الادارة الاميركية في حق عدد من المسؤولين، وان فشلت هذه الخطة من اجل لجمها عن اتخاذ مزيد منها بعدما تحدثت السيناريوهات المتداولة على نطاق ضيق في إمكان فرض مزيد منها على فريق من المستشارين والمسؤولين في مواقع عدة.
على هذه القاعدة التي افقدت الوفد اللبناني نقاط قوة كان يمكن ان يمتلكها لو حصل العكس، فقد دعا الوفدان الاميركي والاسرائيلي الى العودة الى النقاط المعتلمة سابقاً، وهو ما ادخل المفاوضات بين شاقوفَي الشروط والشروط المضادة. فالجانب اللبناني كان يملك تعليمات بعدم القبول بأي «شروط مسبقة» كالعودة الى ما آلت اليه المفاوضات السابقة عام 2012 من دون ان يمتلك اوراق القوة التي تسمح له بالصمود، في وقت طرح الوفدان الآخران شروطهما بالعودة الى مرحلة ما قبل بروز الخط 29 فكانت النتيجة الحتمية رفع المفاوضات وتأجيل الجلسة السادسة الى موعد لاحق.
وكما بات واضحاً فقد بات تحديد موعد الجلسة المقبلة رهناً بنتيجة المفاوضات التي تعهّد بها رئيس الجمهورية في لقائه مع اعضاء الوفد امس الأول الذي انتهى الى معادلة بسيطة: ان لم يسحب الجانب الوسيط والعدو معاً شرطهما بمنطقة الـ»860 كيلومترا» لن يعود الوفد اللبناني الى طاولة المفاوضات. وعليه، فإنّ ساعات ليل أمس الأول لم تكن كافية لمعالجة الموضوع، فانسحب الفشل في اقناع الاميركيين بالعودة عن شرطهما على تأجيل موعد الجلسة السادسة من دون القدرة على ترقب ما هو مقبل من تطورات، خصوصاً ان أظهر الوفدان الاميركي والاسرائيلي اصراراً على العودة الى المنطقة المتنازع عليها سابقا فسيكون من الصعب التفاهم على موعده لألف سبب وسبب، ولربما جمدت المفاوضات الى أمد جديد ليس في قدرة احد التكهّن به ويمكن ان يضم هذا الملف الى لائحة الملفات الخلافية العالقة والمجمدة.
ثمة من يعتقد ان الدخول في مرحلة المقايضات ستكون له تأثيراته السلبية على مهمة الوفد العسكري المفاوض، وهو امر لن يصبّ إلّا في مصلحة الجانب الإسرائيلي الذي وفّرت له المواقف اللبنانية المترددة الأخيرة فرصة إضافية ثمينة لاستكمال الخطوات التي ينوي القيام بها للبدء في استثمار حقل «كاريش» في حزيران المقبل، فتتحول خطوته هذه امرا واقعا جديدا ليس من السهل تجاوزه. فلبنان يتخبّط في أزماته السياسية والحكومية تاركاً الوفد المفاوض بلا قاعدة رسمية داعمة، ولن ينفع الدعم الشعبي والإعلامي في توفير ما يمكن ان توفره المواقع التي أناط بها الدستور صلاحيات رعاية المفاوضات مع اي دولة خارجية حتى النهايات الضامنة لها.
والى هذه الأسباب المتعددة الوجوه، ثمة رأي آخر ينزع عن المفاوضات الجارية الجوانب التقنية والعسكرية والعلمية ليضعها في الميزانين السياسي والديبلوماسي، فالتجارب السابقة اظهرت انّ قوة القانون المحلي والدولي ومعهما المنطق عاجزة عن مواجهة «منطق القوة» الذي يستخدمه العدو الإسرائيلي فكيف ستكون عليه الحال ان ثبت انحياز الجانب الأميركي اليه في الشكل الذي ظهر في الجلسة الأخيرة؟
ومن دون عناء في البحث عن النتائج المقدرة فإنّ ما هو مرتقب يثير القلق على مصير المفاوضات، والأخطر ان انسحب على حق لبنان بالمنطقة الإضافية التي سعى اليها الوفد المفاوض. هذا عدا عن النتائج المرتقبة لمثل هذه الأجواء غير المريحة. وعليه، سيطرح سؤال وجيه مفاده: ماذا ستكون عليه ردات الفعل على فشل المفاوضات؟ ومن يضمن حق لبنان بالمناطق الإضافية؟ وهل علينا ان ننساها لتسديد أثمان سياسية آنية تضيع الحقوق اللبنانية؟ وماذا سيكون عليه الوضع في حال وصلنا الى المرحلة االتي يستذكر فيها الوفد اللبناني نظرية «وَصّلتونا لنص البير… وقطَعتوا الحبلة فينا». وهو ما ستترجمه الاجوبة المجهولة – المعروفة على مجموعة الأسئلة هذه؟