“لَهفي على وطني، لم يبقَ لهُ في الأفقِ هالات تمسَّكَ السُّرَّاقُ بِعُرى اللذّاتِ، فيا بئسَ ما جنتِ اللّذاتُ والذات راحَ الحياءُ وغدا منهم بِمنزلةِ السقوطِ، وفوقَ شاطئِ الأمنِ والأمانِ غيّمتِ الضلالات لِكلِّ طاغٍ من الطغاةِ ميقاتُ، ولهمُ من ظُلمِ الشعوبِ غايات ونحنُ كبيادقِ الشطرنجِ في أيديهِم، يلعبونَ في مصائرنا كما في يدِ القصابِ شاة طَوَتْ حالاتهمُ حياتُنا بل قد أذّلْتها، ولم تبقَ فوقَ الأرضِ للكرامةِ رايات رَمونا من حيث لم يستُرنا جوعٌ واكتفاءُ، فاسدونَ مصائبهُم لنا كالنَّبالِ مُصيبات حَسَبوهُم كالأسودِ مخافةُ، لكنهم نمورٌ من ورَقٍ تحرّكها عبر الوقائعِ حيّات” رمزي عقراوي شاعر من كردستان العراق
كثيرون ربما يعرفون أسطورة “نرسيس” الإغريقية. ذاك الشاب الوسيم، ذهب ضحية جمال طلعته عندما شاهد انعكاس صورته على صفحة المياه للمرة الاولى، فؤخذ بجماله وبقي يتأمل نفسه إلى أن ذوى وتحوّل إلى زهرة أخذت منه اسمه وهي النرجس.
لست هنا لهجاء النرجسية، فهي في مكونها العادي جزء أساسي من بناء وتكوين الإنسان النفسي والاجتماعي، وهي من أهم دوافع الحفاظ على الذات جسديًا ومعنويًا، كما أنّها قد تكون إحدى أهم سمات التفوق والإنجاز والإبداع. لذلك، فقد نجد في معظم المبدعين بعضًا من النرجسية التي تلامس أحيانًا الخطوط الحمر الفاصلة بين ما هو بنّاء وإيجابي وما هو هدّام وخبيث.
وكثيرًا ما تجاوز الناس بعض الإنحرافات النرجسية عند المبدعين، لأنّ حسنات إنجازاتهم تغفر لهم أو تغطي هذه الإنحرافات. أما النرجسية المرضية، والتي تصل أحيانًا إلى حدّ وصفها بالخبيثة، فهي نوع من الإضطراب النفسي الذي يصيب بعض الناس. هنا، تتصف الشخصية النرجسية بشعور مبالغ في تقدير الذات وحساسية مفرطة تجاه انتقادات الآخرين أو مساءلاتهم.
يبالغ النرجسي في تضخيم ذاته ومنجزاته وذكائه وإمكانياته ومكانته الإجتماعية. كما أنّه يعتبر نفسه محط أنظار الجميع وحسدهم، ويعتبر عامة الناس غير قادرين على فهمه أو استيعاب أفكاره، إلّا قلة منهم مميزة هم عادة من يبالغون، عن قناعة أو عن مصلحة، بمديح صفاته وتصرفاته وحكمته…
فيغرق النرجسي في خيالات صاخبة حول نجاحه الأسطوري ونبوغه العبقري وإلهامه الذي لا يخطئ، ومع ذلك فلا يشعر بالرضى عن أي إنجاز يحققه لأنّه يعتبره دائمًا أقل مما يستحقه. لكن الصفة الملازمة لهذا النوع فهي الحسد والحقد على كل من يفوقه نجاحًا أو ذكاءً أو مرتبة. وقد تصل مع البعض إلى السعي لتدمير كل من يتفوق عليه، وبوسائل تصل إلى حدّ الإجرام. وغالبًا ما تصيب بعض هؤلاء نوبات غضب نافرة أمام الإنتقاد، أو في مواجهة أسئلة أو مواقف محرجة، أو في حالات الفشل في تحقيق الأهداف. وغالبًا ما تنقص عند النرجسي القدرة على التعاطف الإنساني، فيتصرف ببرودة أو حتى شماتة تجاه حزن أو مصائب الآخرين. وكثيرًا ما يُصاب بنوبات اكتئاب وأعراض هستيرية وتصرفات مضادة للمجتمع، في حالات الإحباط والهزيمة.
من الواضح أنّ هذا النوع من الشخصيات يعاني صعوبات اجتماعية قد تصل إلى حدّ التسبّب بالكوارث على المستوى الشخصي أو في محيطه العائلي أو الاجتماعي. ولكن الطامة الكبرى تقع عندما تأتي ظروف تضع نرجسيًا في موقع قيادي أو سلطوي، فتتحلّق حوله جموع من “المساطيل” أو المنتفعين، مما يساهم بشكل خطير في تغذية السلبيات النرجسية، وكثيرًا أيضًا ما يقع تحت تأثير مجموعة من الخبثاء الذين يعرفون نقاط ضعفه، فلا ينفكون عن مديحه للإستفادة من فائض غيه، فيظن هو أنّهم من المؤمنين بعبقريته، أو يدخل معهم في لعبة الإستخدام المتبادل، عندما يعتبر كل طرف أنّه يستغل الآخر لهدف معين ولوقت محدّد، على طريقة زواج المتعة. إنّ تجارب البشرية مع هذا النوع من الوقائع كانت تنتهي دائمًا بكوارث كبرى بحجم حروب عالمية.
ماذا يعني كل هذا الآن؟ فليس الهدف من شرحي تشريح شخصية النرجسي، بل الهدف هو شرح شخصية “شيوخ الطريقة” السياسية في لبنان. وما يبرز في هذه الأيام، في ظلّ الاستنقاع السياسي، حوران ودوران رئيس “التيار الوطني الحر”، المغلّف بكافة أنواع الاستغفال الذي يصل إلى درجة الاستحمار لعقول الناس، ويكفي أن نلاحظ أنّ معظم عرابي هذا الحراك هم من التجار والسماسرة المعروفين لدى العارفين والمتابعين. ولكن، ومع ذلك، لا يحتاج اللبنانيون إلى كثير من التفكير ليشيروا بأصابعهم مباشرة إلى أكثر الشخصيات اللبنانية تطابقًا مع المرض النرجسي، فعشق هذا الكائن للظهور واضح من اقتحامه المتكرّر لوسائل الإعلام تحت الرايات والصور. هذه العلاقة بينه وبين وسائل الإعلام أشبه بمتلازمة “السادو-مازوشية”، فهو بحاجة ماسة ليعذبها بكلامه المفكّك والمتناقض والشعبوي، ولكنها تعد
به بأسئلة محرجة أو تعليقات متسائلة وأحيانًا بأخبار وتحليلات تشوّه صورته التي يرى فيها نفسه كأيقونة مقدّسة، وجب تعليقها على كل صدر وفي كل بيت وعلى سطوح المنازل والشرفات وعلى عواميد الكهرباء وزجاج السيارات الخلفي والأمامي. من هنا، علينا تفهّم جبران اليوم في تعطيله لانتخابات رئاسة الجمهورية، بالتكافل والتضامن مع آخرين من أمثاله. أزمة الرجل المنطقية هي أنّ صورته هذه لم تعلّق بعد في المؤسسات العامة، وهي أقل طموحاته! فهو يظن أنّ مكانها في الأمم المتحدة وعلى سطح القمر، وهو عاتب على المركبة الحشرية “أندفور”، لأنّها لم تأخذها إلى المريخ وهي تستكشفه.
يكفينا هذا القدر من الكلام الساخر، مع أنّ شرّ البلية ما يضحك، ولنعد إلى الوقائع، فطلب حسن نصر الله بالمونة بأن يتنازل جبران عن “حقه الطبيعي”، حسب قناعته، بوراثة عمه أمر غير مقبول بغض النظر عن المعطيات التي شرحها المرشد الأعلى لشريكه في اتفاق مار مخايل، مع العلم هو أنّ القضية ليست محصورة باسم البديل، فرفض رئيس “التيار الوطني الحر” يشمل كل من ليس اسمه جبران باسيل. هو يعلم علم اليقين، بأنّ خروج عمه من “قصر الشعب” في بعبدا من دون توريثه، يشبه حكم الإعدام السياسي لتيار فصّله الرئيس عون على قياسه، ومن ثم زمزمه على قياس صهره، ولا دخل لنا في هذا العشق الغريب بين العم والصهر، فللبيوت أسرارها. لكن، وبكل موضوعية، فمن المجحف استفراد جبران باسيل بحكم تصرفاته وشخصيته النافرة أو المنفرة، فهو لا يفرق بشيء عن كل القيادات والزعامات النرجسية الفاقعة التي مرّت على الأحزاب والطوائف، وجعلت من مصير الناس والبلد مسألة مرتبطة بشخص وموقع ونجاح كل واحد أو واحدة منهم في تحقيق ما يراه في ذاته، وهو غير محدود.
وبما أنّ القدرات الشخصية ضحلة عندهم بالإجمال، يبقى التعطيل السمة الموحّدة بينهم جميعًا. فيتعطّل مجلس النواب ويتعطّل الاقتصاد وتتعطّل قيمة العملة وتتعطّل المدارس وتبطل الانتخابات… وكلها فداءً لخدمة النرجسي الذي أتى به القدر إلى موقع المسؤولية، من كل الطوائف والمذاهب ودون استثناء. من هنا، فلا شيء يميز باسيل عن غيره منهم، فهم كأنّهم ينتمون جميعًا إلى عشيرة واحدة. وهنا، حتى ولو اعتبر نصر الله بأنّه يمون عليه، لكن ليس لدرجة أن يحكم عليه الاندثار المبكر قبل أن يحقق كامل تطلعاته، وهي، كحال غيره، غير محدودة!