Site icon IMLebanon

بئر نصرالله وحجر باسيل

 

إذا كان “حزب الله” بئراً من الأسرار فهو لا يقبل أن يأتيه من يشرب منه ثم يلقي فيه أو عليه حجراً. هو ليس بئراً مفتوحة للجميع ولا متاحة للجميع وهو لا يعتبر أنه بحاجة إلى غطاء طالما أنه يعرف كيف يغطّي على نفسه. من هذه الزاوية تأتي فرضية ما يحكى عن حاجة الحزب إلى غطاء التيار الوطني الحر منذ تم التوصل إلى تفاهم مار مخايل بينهما في 6 شباط 2006.

بين لقاء السبع ساعات الذي لم يكن مباحاً ومكشوفاً بين الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في تشرين الأول الماضي، وبين تداعيات ما بدأ يحصل من توتر بين الطرفين في المرحلة الأخيرة مسافة من الزمن لا تختصر كل جدليات العلاقة الملتبسة بينهما. في 13 تشرين 2019 كان بإمكان باسيل المستند إلى ذاك اللقاء أن يقف في بلدة الحدث ويهدّد بقلب الطاولة على الجميع وبأنه سيكون التيار الجارف كالمياه بعد أن كان هدّد قبل شهرين في ذكرى 7 آب في ضبيه حيث اختار أن يبني مقراً رئيسياً للتيار بأن “لا شيء سيوقفنا عن تحقيق أحلامنا”. ولكن هل فقد باسيل ذاك الزخم وهل سقط الرهان على العلاقة مع “حزب الله”؟

 

التفاهم بعد الحذر

 

عندما تمّ بناء إتفاق العماد ميشال عون وموفدي الرئيس أميل لحود برعاية عهد الوصاية السورية نهاية العام 2004 لتأمين عودته إلى لبنان، ربّما لم يكن “حزب الله” في صورة ما يمكن أن يضمن التزام عون بما تضمّنه ذاك الإتفاق ورواه المحامي كريم بقرادوني في كتابه “صدمة وصمود- عهد أميل لحود 1998ـ 2007″ ويتعلّق بالتحالفات التي سيمشي بها عون في الإنتخابات النيابية وبإقفال ملفّه القضائي. وربّما لذلك أيضاً لم يكن هناك تفاهم بين الحزب وعون في هذه الإنتخابات وتفضيل الحزب المثقل بملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذهاب نحو التفاهم مع من كان يمكن أن يتّهمه بعملية الإغتيال خصوصاً بعدما سلكت القضية طريق الإنتقال نحو التحقيق الدولي وعدم القدرة على لفلفتها تحت أجنحة أجهزة الأمن و”العدالة” اللبنانية والسورية. وربما من هذا المنظار أيضاً يمكن أن يتم وضع التفاهم المتأخر الذي حصل بين التيار والحزب كأنه مكمّل لاتفاق عودة الجنرال.

 

هل كان الحزب وقتها بحاجة إلى غطاء مسيحي بحجم ما يمثّله العماد ميشال عون؟ ربما يمكن النظر إلى هذا الموضوع من هذه الزاوية في تلك المرحلة لأن الحزب كان يواجه ضغطاً داخلياً ودولياً قد يرتدّ عليه سلباً بعد الإختلال الذي أصاب توازن القوى الداخلي نتيجة عاملين أساسيين هما انسحاب الجيش السوري من لبنان وفوز قوى 14 آذار بالأكثرية النيابية التي أعقبها تشكيل حكومة برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة، كان لهذه القوى فيها الأكثرية وإن تم التوافق على أن يكون “حزب الله” ممثلًا فيها.

 

في حسابات تلك المرحلة أنّه ربّما لو اصطفّ العماد عون مع قوى 14 آذار لكان الحزب حُشر في الزاوية ولذلك خرج من حساباته التي يخفيها في بئر أسراره عن عون وتياره وذهب إلى الإتجاه المعاكس مروجاً لسلسلة جديدة من القراءات السياسية لمواقف عون تتناقض مع الصورة التي كانت راسخة عنه لديه. وبذلك لم يعد الجنرال ذلك المنبوذ والمتآمر على الحزب وسوريا والمتعامل مع الإدارة الأميركية والمتواطئ في دعم قانون محاسبة سوريا في الكونغرس الأميركي والقرار 1559 الذي صدر عن مجلس الأمن في 2 أيلول 2004 وطالب بنزع سلاح الحزب وسحب الجيش السوري من لبنان وانتخاب رئيس للجمهورية واحترام المهل الدستورية، أصبح عون القائد الوطني الذي يعرف لبنان زاوية زاوية وكلمته كلمة والذي يعادي بشرف ويصالح بشرف. هذا الخيار ترسّخ بعد حرب تموز 2006 التي وقف فيها الجنرال والتيار وراء الحزب بحيث بادله السيد حسن نصرالله “الوفاء” معتبراً أنه دين له في رقبته سيحفظه دوام الدهر. ومن هذا الدَّين كان العماد عون يريد أن يكون رئيس الجمهورية المقبل بعد انتهاء ولاية الرئيس لحود الممدّدة. ولكن هذا الأمر لم يحصل. بعد غزوة 7 أيار 2008 وتفاهم الدوحة صار قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.

 

العهد والوعد

 

فرض “حزب الله” الفراغ بعد انتهاء ولاية سليمان طوال عامين ونصف العام. من 25 ايار 2014 حتى 31 تشرين الأول 2016. في آخر ما قاله السيد حسن نصرالله أن العماد عون كان يطالبه بالإعلان عن أنّه المرشح الوحيد والأول لرئاسة الجمهورية وأنه بعدما أعلن ذلك تلقّى ملامة على أساس أن هذا الإعلان جعل الناس يقولون أن عون صار مرشح “حزب الله”. كان السيد نصرالله يريد أن يسقط تلك التجربة على محاولة الوزير جبران باسيل اليوم الحصول على تعهّد مماثل منه بأنّه يدعمه وحده ليكون خلفاً لعمّه والد زوجته الذي لا ينفكّ يجاهر بدعمه له وبأنه الحصان الذي دخل باكراً السباق إلى الرئاسة ولا بدّ أن يكون الحصان الرابح والراكض الوحيد في الميدان بضمانة الحزب. ولكن يبدو أن الحزب ليس في هذا الوارد وما حصل مع عون لا يريد أن يكرّره مع صهره.

 

ما قاله السيد نصرالله حول هذا الموضوع ربّما يكشف أنه لم يكن من الوارد عنده أن يتعهّد لأحد طالما أنّه يرجع دائماً إلى ذلك البئر من الأسرار التي تدير الحزب ويديرها ولا يمكنه أن يكون بالتالي أسير أيّ تعهّد من هذا النوع لأنّه دائماً يحتسب لتغيّر الظروف وتبدّل الأحوال ومواجهة الأهوال. وربّما من هذه الزاوية أيضاً يمكن القول أن عون لم يكن خيار الحزب الرئاسي بالمطلق بل الفراغ بانتظار ما يمكن أن يطرأ حتى تأتي عملية التغيير من خارج السياق ويتحلّل السيد حسن نصرالله من التزامه تجاهه. فتجربة الحزب مع الرئيس ميشال سليمان لم تكن مشجعة بل انتهت إلى خيبة كبيرة وبالتالي كان الحزب يعرف أنه لا يمكن أن يتغطى باي حكومة وأن الغطاء الأول يبقى في رأس الشرعية في من سيكون في قصر بعبدا. يكفي أن يقف رئيس الجمهورية “أي رئيس” ليعلن أنه لا سلاح في لبنان إلا سلاح الجيش وأن لا استراتيجية للدفاع إلا استراتيجية الدولة وأن لا بدّ من إقفال الحدود بشكل كامل وأن القانون فوق الجميع حتى يجعل الحزب يعيد كل حساباته. صحيح أن السيد حسن نصرالله كان أعلن أكثر من مرة أنّ “المقاومة” لم تكن تحظى بالإجماع وأنّها لا تبحث عن هذا الإجماع وأنّه لا يأبه لما يحكى عن أن لدى الحزب فوبيا الحرب الأهلية ومن هذا الباب يصبح الحكي عن البحث عن غطاء التيار الوطني الحرّ مجرّد تفصيل لأن الأولوية التي تدخل في حسابات الحزب ليست أخطار الحرب الأهلية بل موقف الدولة والشرعية من لاشرعيته. تلك هي المسألة التي يضعها الحزب في حسابات قياس قامة وقماشة من يمكن أن يقبل به رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2022.

 

الحذر بعد التفاهم

 

في بئر أسراره يبحث “حزب الله” عن الشكّ دائماً قبل أن يبحث عن الغطاء. لا يمكنه أن يضع يديه في مياه باردة. بعد تفاهم 6 شباط مع العماد عون تم البناء على أسس تنظيم الإتفاق في ظل الإختلاف على قاعدة أن لا تماهي بين الطرفين بل لكلّ منهما خصوصيته. في المدّة الأخيرة بدأ الحديث عن تنظيم الخلاف. تجربة الإنتخابات النيابية في أيار 2018 تركت ندوباً ولكنّها لم تصل إلى حدّ التهديد بالإفتراق وإلى التخيير بين الجوع والمقاومة والتشكيك بنيّة الحزب خوض المعركة ضد الفساد تلك المعركة التي اعتبر السيد نصرالله أنها يمكن أن تكون طريقاً مفروشة بالألغام، فعن أي ألغام كان يتحدّث؟

 

لا يخشى حزب الله ربّما ردّ فعل الوزير باسيل ولكنّه يخشى طبعاً ردّ فعل الرئيس عون وهو العارف بطبعه وطباعه خصوصاً أنّه كان شريكًا له في الكثير من المحطات التي تعطّل فيها البلد من أجل حقيبة وزاريّة لباسيل. ولكنّه في تلك الخيارات لم يكن بعيداً عمّا يريده عون وربّما كان عون يشكّل غطاء له. ولكن اليوم لا يمكن أن يقبل الحزب بمن يأتيه شارباً من بئره ثم يرمي فيه حجراً. وهو يعرف من هو “ضرِّيب” الحجار في التيار.