IMLebanon

هل التسوية الحكومية تمهِّد لتسوية دستورية؟

 

لم يعد مشهد التسويات التي تحصل بقدرة قادر وفي غضون أيام قليلة يستهوي اللبنانيين، فيهبط الوحي فجأة وينهض الجميع للمشاركة في التهاني، من دون معرفة الأسس التي قامت عليها هذه التسوية.

اعتراض البعض على تسوية التكليف ينسحب على الشكل والمضمون في آن معاً. فالناس المنتفضة منذ 17 تشرين، والتي فقدت صوابها مع انفجار 4 آب، لا يمكن ان تتقبّل تسويات على الطريقة القديمة، على رغم انّ فرنسا دولة صديقة. ولكن مشهدية إخراج التسوية، من تسمية الرئيس المكلّف إلى مباركة معظم الكتل، فاقمت في أزمة الثقة المفقودة أساساً بين الناس والسلطة، فيما كان من الأجدى الوصول إلى تسوية معلنة في بنودها، خصوصاً بعد فشل حكومة الرئيس حسان دياب والانهيار الذي يعيشه لبنان.

 

فالتسوية مطلوبة في كل وقت، ولكن ليس أي تسوية، والتسوية المطلوبة اليوم برعاية فرنسية، ان تجيب عن ثلاثة تساؤلات أساسية، ولو تمّت الإجابة عنها قبل التكليف لكان اختلف هذا المسار وتبدّل: هل سيتمكّن الرئيس المكلّف من تأليف حكومة غير خاضعة كلياً للفريق الحاكم وتأثيره، فلا محاصصة من تحت الطاولة ولا تسميات لوزراء حزبيين من دون بطاقة؟ وهل سيتمكّن من توزيع الحقائب بالطريقة التي يريدها من دون استثناء اي فريق؟ وهل سيكون للحكومة برنامج عمل يبدأ بكونها انتقالية، مهمتها التحضير للانتخابات النيابية المبكرة ولا ينتهي بالقيام بالإصلاحات الفورية، وفي طليعتها إقفال المعابر غير الشرعية وإنهاء ملف الكهرباء؟

 

وإذا كانت الرغبة الفرنسية بتسريع التكليف من أجل مواكبة زيارة الرئيس الفرنسي، فهل ستتعهّد باريس بتشكيل حكومة غير خاضعة لنفوذ السلطة الحاكمة، وهل في إمكانها أساساً ان تضمن عدم عرقلة الفريق الحاكم؟ فالمشكلة في كل التسويات المعقودة منذ «اتفاق الطائف» مروراً بالقرارين 1559 و 1701 و»اتفاق الدوحة» وصولاً إلى التسوية الرئاسية، انّها كانت قرارات وتسويات سيادية بنصوصها وتعهداتها، ولكن تنقلب الأمور رأساً على عقب لحظة التنفيذ، وبالتالي، ما الفائدة من تسويات يضمن فيها الفريق الحاكم استمرار نفوذه وسطوته وتشكّل له مخرجاً من أزمته وانسداد أفقه، إذا كانت هذه التسويات لن تخدم مشروع الدولة، فيما كان من الأجدى ترك هذا الفريق يقلِّع شوكه بيده، في انتظار ان يصل إلى إقتناع بتسوية تعيد ما للدولة للدولة؟

 

ولا شك في انّ الفارق بين الرئيس حسان دياب والرئيس المكلّف مصطفى أديب، هو انّ الأوّل جاءت تسميته على يد فريق 8 آذار، فيما الثاني يحظى بغطاء المكون الذي ينتمي إليه والرعاية الفرنسية. ولكن هذا لا يعني أنّه سيتمكّن من تحقيق ما عجز دياب عن تحقيقه، وذلك على رغم انّ فريق السلطة في حاجة الى تقديم التنازلات منعاً لسقوط البلد وسقوطه. فقد أيقن أنّه لا يستطيع ان يواصل السياسة نفسها من دون أي تعديل. ولكن، كل الخشية أن تمدّ التسوية هذا الفريق بالأوكسيجين، فينجح في تقطيع الوقت والانقلاب على ما تحقق كما يفعل دائماً، فيما الوقت كان أكثر من مناسب بإلزامه بتسوية حقيقية لا شكلية، ونهائية لا انتقالية.

 

وبالتزامن مع التسوية الحكومية، خرج فجأة إلى الضوء الكلام عن «عقد سياسي جديد»، ما أوحى أنّ باريس أعادت فتح هذا الملف الذي فُتِح للمرة الأولى في سان كلو عام 2007. وفي هذا السياق ينمّ كلام السيد حسن نصرالله عن عقد سياسي جديد، عن رغبة جدّية في فتح النقاش في هذا الموضوع الذي أثاره من باب الطرح الفرنسي، علماً انّ ما طرحه الرئيس إيمانويل ماكرون تمّ توضيحه بأنّه لم يقصد تغيير الدستور أو تعديله، إلاّ إذا كان هناك طرح بهذا المعنى خلف الكواليس.

 

وقد أكّد السيد نصرالله «أننا منفتحون على أي نقاش هادئ للوصول إلى عقد سياسي جديد، شرط ان يكون النقاش والحوار الوطني بإرادة ورضى مختلف الفئات اللبنانية»، وقال: «قبل سنوات تحدثت عن مؤتمر تأسيسي لتطوير إتفاق الطائف، ونذكر حينها ردود الأفعال من بعض الجهات والمرجعيات».

 

ولعلّ السؤال الأساس الذي يطرح نفسه: لماذا أثار نصرالله هذه المسألة في هذا التوقيت بالذات؟ وهل من مفاوضات تجرى بعيداً من الأضواء، ومن يتولاها؟ وما هي الأفكار المطروحة او التعديلات المقترحة؟ وهل هذا الطرح له علاقة بتطورات المنطقة التي تستدعي من «حزب الله» التفكير بمرحلة ما بعد سلاحه ودوره؟ وهل إشارته هي رسالة الى الداخل أم الخارج عن استعداده لتسييل سلاحه؟ وهل كلامه يدخل في الإطار التكتي، بمعنى انّه في حال نجحت طهران في تجاوز الضغوط الأميركية يتراجع عن طرحه حفاظاً على دوره وسلاحه الذي يشكّل أولية الأولويات وعلّة وجوده؟

 

وقد وضع نصرالله تطوير الدستور تحت إطار التوافق بين مختلف الفئات اللبنانية، لأنّه يدرك استحالة اي تغيير او تعديل من دون موافقة جميع المكونات اللبنانية، وهذا يعني انّ إرضاء فئة لا يمكن ان يحصل على حساب أخرى، إنما كل تعديل سيقابله تعديل آخر بما يرضي الجميع، والأهم انّ كل هذه التعديلات يجب ان تقود إلى الاستقرار والسلام وتعزيز دور الدولة وحضورها.

 

ويدرك الأمين العام لـ«حزب الله» أيضاً، انّ الاتفاق على عقد سياسي جديد يعني إعادة المساواة بين جميع اللبنانيين، فلا توجد فئة «بريمو» تمتلك حق الدفاع عن لبنان، وفئة «تيرسو» وظيفتها الاهتمام بشؤونها الحياتية، إنما تحقيق العدالة والمساواة بين الجميع تحت سقف الدولة والدستور والقانون. ولا شك في انّ كلامه المتكرّر عن عقد سياسي جديد يؤشر في وضوح الى انّ لديه تصوراً متكاملاً حيال التعديلات التي يرغب في إدخالها على الدستور، ولكنه يفضِّل عدم الإعلان عن تفاصيلها، بل مجرد الاكتفاء بالعنوان الكبير المتصل بالرغبة والاستعداد للبحث في العقد الجديد، فيما الشائع على هذا المستوى يتصل باستبدال المناصفة بالمثالثة، على قاعدة انّ المكون الشيعي اختلف حجمه ودوره عمّا كان عليه في ميثاق العام 1943 ووثيقة الوفاق الوطني في العام 1989، وانّ النظام السياسي الذي ارتكز على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين لم يعد يمثِّل تطلعات الشيعية السياسية التي ترى نفسها كحالة قائمة في حدّ ذاتها، لا تُختصر ضمن حالة إسلامية أخرى.

 

وبما أنّ أي تعديل دستوري يمكن ان يطاول الحصّة المسيحية في الدولة، فإنّ المسيحيين لا يمكن ان يقبلوا أي مسّ بحصتهم التي عُدلّت في «اتفاق الطائف» سوى مقابل تعديلات تؤدي إلى ضمان وجودهم ودورهم واستمراريتهم، فلا تعديل إلاّ على أساس تعديل مقابل، وهذه المرة بما يضمن مئوية جديدة قائمة على دستور يكون له صفة الثبات والديمومة في جوهره المتصل بطبيعة التركيبة اللبنانية التعددية.

 

واي عقد جديد يفترض ان يضمن ثلاثية متلازمة: السيادة ودور الدولة كمساحة مشتركة على قاعدة الحياد، مستقبل الجماعات ضمن نظام لا مركزي تضمن من خلاله وجودها بمعزل عن التبدلات الديموغرافية، ودور الفرد في إطار نظام مدني حديث.

 

ولكن أي تعديل للدستور او تطويره يرتبط بمستقبل المنطقة وما يمكن ان تؤول إليه نتيجة الانتخابات الأميركية والتفاوض الأميركي- الإيراني بعد هذه الانتخابات، في ظلّ شعور انّ هناك هندسة جديدة بدأت تبرز معالمها، وأنّ السنة المقبلة 2021 ستشكّل دفعاً في اتجاه ترسيخ هذا الواقع الجديد.

 

ومن الثابت انّ «حزب الله» لن يتخلّى عن سلاحه سوى في حال اضطر إلى ذلك بفعل طلب إيراني، نتيجة تسوية مع أميركا حول دور طهران في المنطقة. وكلامه الأخير عن عقد سياسي جديد يدخل في إطار الرسائل الموجّهة إلى باريس، من انّه على استعداد للبحث في مستقبل سلاحه مقابل مزيد من الصلاحيات التي لم يحدّدها، ولكن هذه الصلاحيات لا يمكن ان تأخذ هذه المرة من فريق لحساب آخر، إنما اي تفكير بتجاوز الدستور وعدم العودة إلى مندرجاته التي تشكّل ضماناً للجميع، يعني إيجاد الخلطة التي تحقق المساواة والعدالة، وتضمن مئوية جديدة من دون نكسات وهزات وحروب.