لم يحد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في خطابه الذي استمر أكثر من ساعة، عن النمط الاستيعابي. حاول قدر الامكان تدوير زوايا الأزمة الحكومية العالقة حتى اللحظة في عنق الزجاجة. ومنح بقية اللاعبين مزيداً من الوقت حتى صبيحة يوم الاثنين المقبل كي يحسموا خياراتهم النهائية إزاء تسمية رئيس للحكومة.
ترك الباب مفتوحاً أمام خيارين اثنين، مفتاحهما المشترك رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري، ولو أنّه حاول التخفيف من منسوب “غرام” الثنائي الشيعي بالحريري، من خلال ترك الشأن الحكومي معلّقاً على حبل احتمالين اثنين: إما حكومة برئاسة الحريري، وإما برئاسة بديل له يتولى تغطيته ودعمه.
لكن بالنتيجة، كل دروب الحكومة تصل إلى مطحنة بيت الوسط لتكون ممر حكومة “أوسع تمثيل ممكن”، كما وصفها، عملاً بالميثاقية الطائفية التي تقتضي احترام “كبار الطوائف” ومشاركتهم في القرار السياسي.
في المقابل، إنتظر العونيون من حليفهم أن يضع خطاً أحمر حول حتمية مشاركتهم في الحكومة، لتكون بمثابة شرط وجودي لقيام حكومة ما بعد 17 تشرين، كما سبق لـ”حزب الله” أن فعل في أكثر من استحقاق حكومي. لكن نصرالله اكتفى بالإشارة إلى أنّ “الحلّ للأزمة الحالية هو تعاون الجميع وتقديم التنازلات”، ومصراً على “أن يشارك الجميع بما يمثل ولا يجوز أن تُشكّل الحكومة بشكلٍ يستبعد أيّ مكوّن، ونصرّ على مشاركة “التيار الوطني الحر” في الحكومة بما يمثل ومن يمثل”.
ولهذا، ثمة من اعتبر أنّ دعوة نصرالله القوى السياسية إلى عدم التهرب من مسؤولياتها، لا يستثني “التيار الوطني الحر” الذي قرر أن يدير ظهره للسلطة ويتجه إلى المعارضة.
ماذا يعني ذلك؟
هذا لا يعني أبداً وفق المطلعين، أنّ “حزب الله” تخلى عن حليفه المسيحي ولكن سلّم الأولويات في هذه المرحلة بات مختلفاً. على خلاف الاستحقاقات السابقة حيث كان “حزب الله” يخوض معارك “التيار الوطني الحر” السلطوية ويدعمها بشكل مطلق، يواجه اليوم أزمة اقتصادية تستدعي أن تكون الاولوية لحماية الأمن الاجتماعي، الأمن الغذائي، الأمن النقدي، وبالتالي العمل على صياغة حكومة تحاكي المجتمع الدولي لتأمين أدوات المعالجة المالية. الأمر الذي يدفع به إلى حماية علاقته بالمكون السنيّ بشكل قد يوازي منسوب حمايته لعلاقته بالمكون المسيحي.
ولهذا اختار “الحزب” طريقاً منفصلاً عن “التيار الوطني الحر” في مسألة ليست تفصيلاً بسيطاً وقد لا تمرّ مرور الكرام في علاقتهما الثنائية، ولو أنّه لا يزال يحاول مداراة اعتبارات حليفه وتشجيعه على المشاركة في حكومة الحريري، أو “وكيله”.
لكن الأمور لم تصل برئيس “التيار الوطني الحر” إلى حدّ “طلاق السلطة”، بإعلانه الانتقال إلى صفوف المعارضة، إلّا بعدما فرغت جعبته من كل الخطط الهادفة إلى إخراج رئيس تيار “المستقبل” من السراي الحكومي.
أخرج الرجل من قبعته كل الأرانب المتوفرة: ترئيس محمد الصفدي، بهيج طبارة، سمير الخطيب، فؤاد مخزومي وحتى جواد عدرا. كلها في محاولة زرك الحريري في زاوية حكومة اختصاصيين من رأسها حتى أخمص قدميها، كي يرضى بالمقابل بحكومة ملونة سياسياً تعيد باسيل “كبير وزرائها”.
لكنه اصطدم، ليس بـ”محرقة بيت الوسط” فحسب، وإنما بتمسك الثنائي الشيعي بسيناريو إبقاء الحريري في سدّة السلطة التنفيذية، لاعتبارات كثيرة تتصل بهاجس التوتر السني- الشيعي، وبالحؤول دون الهروب من مسؤولية مواجهة الانهيار المالي، وباحترام الميثاقية الطائفية التي تحتم الوقوف عند رأي “التيار الأزرق”.
بناء عليه، باتت امكانية “تعويم” التسوية الرئاسية التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية والحريري رئيساً لحكومتيّ العهد العوني، للجمع من جديد بين الحريري وباسيل، من رابع “المستحيلات”، وأشبه بالتقاء الماء والزيت. العامل الشخصي يغلب على ما عداه في أسباب التوتر في علاقة الشريكين السابقين، بشكل يحول دون جلوسهما وجهاً لوجه مرّة ثالثة على طاولة ميشال عون الحكومية.
كما أنّ تراجع باسيل عن قراره، بمعنى كسر شرطه، صار صعباً، أقله في المدى المنظور لأنه يعرّض صدقيته للضرب، بعدما رفع سقف خطابه السياسي إلى حدوده القصوى، قاطعاً الطريق على أي سيناريو تفاهمي خصوصاً وأنّ الحريري لا يبدي أي ليونة للعودة عن خيار إبقاء رئيس “التيار الوطني الحر” على لائحة “المبعدين”، كما يرى مطلعون على موقف رئيس حكومة تصريف الأعمال. لا بل أكثر من ذلك، ثمة من يعتبر أنّ انتصار فكرة حكومة من الاختصاصيين من دون دسم سياسي، رئاسة وأعضاء، يعني كسراً للحريري وسيادة منطق الغالب والمغلوب، وهذه استحالة في القواعد اللبنانية وفق التجارب السابقة.
وبالتالي، لا مكان لاحتمال حكومة من لون واحد، بعدما شطبها نصرالله من القاموس الحكومي. وهو السيناريو الذي حاول باسيل اقناع حلفائه به طوال الأيام القليلة الماضية، كما تقول المعلومات، من خلال تشجيعهم على السير بهذا الخيار بحجة أنّ الحريري لا يلعب دوراً إيجايباً في التأليف، ولا بدّ بنظر رئيس “التيار الوطني الحر” من ابتكار حلول من “طرف واحد” للخروج من المأزق الحكومي.
وعليه، سيشهد يوم الاثنين الاستشارات المنتظرة منذ استقالة الحكومة في 29 تشرين الأول الماضي، فيما السيناريو الأكثر رجحاناً هو تسمية الحريري من جديد بأغلبية بسيطة، يفترض أن تبدأ معها صفحة التأليف، التي قال نصرالله عنها إنّها لن تكون سهلة. وقد تكون كلمة سرّها في ضمانات سياسية يريدها “حزب الله” حول دور الحكومة العتيدة في المجال السياسي، قبل أن يعطي موافقته على تشكيلة إستثنائية يريدها الحريري للقيام بمهمة شبه مستحيلة.