لن يغيّر في الحقيقة ولا في قناعات اكثرية اللبنانيين تشكيكُ الأمين العام لـ”حزب الله” بنزاهة المحقق العدلي واتهامه بالاستنسابية وتسييس التحقيق. فجريمة المرفأ كبيرة ووجودية الى درجة انّ أي تهويل أو تسييس لن يستطيع اخفاء ماهيتها او التقليل من أهميتها، او تحويلها حادثاً يُختصر همُّ الضحايا فيه بالحصول على التعويض من شركات التأمين.
لا يحتاج تحقيق القاضي بيطار الى إجماع، وليس مطروحاً في استفتاء او انتخابات، ولا هو لائحة طعام مربوطة بذائقة المرتادين. هو يمثل عدالة ارتضيناها بعدما رفض سلفاً أهل “الممانعة”، من رئيس الجمهورية الى “حزب الله”، أيّ تحقيق دولي. والقاضي بيطار يتمتع بحصانة شخصه وموقعه وثقة أهالي الضحايا، ويعلّق عليه “شعب 4 آب” الآمال للوصول الى تحديد المسؤوليات ومحاسبة المجرمين.
ما دام السيد نصرالله متأكداً من أنّ حزبه غير معنيّ بانفجار المرفأ، فما يجب ان يشغل باله هو انفكاك اللبنانيين من حول “خطاب المقاومة”، بعدما كشفت المنظومة الحاكمة ظهرها وتبيّن أن التغطية على الفساد لتعزيز سلطة السلاح أدخلت اللبنانيين في “جهنم”، وهو وصفٌ دقيق ربما كان الانجاز اليتيم لفخامة الرئيس.
لا يكفي أن يوزّع أمين عام “حزب الله” التهم على شركاء الأحداث الصغيرة التي صادفته في الأيام الأخيرة ليكون على حق. فجماعة بلدة شويا “سفهاء معزولون”، ومجموعة عرب خلدة “قتلة مأجورون”، والاعلام السيادي “فاشيستي!”، وعشرات الآلاف الذين نزلوا الى المرفأ “مضلّلون”. قبل ذلك، كلّ ثوار 17 تشرين كانوا “أتباع سفارات مأجورين”. وقبلهم لبنانيو 14 آذار “متآمرون”، والمحكمة الدولية “مؤامرة كونية على المقاومة وسوريا الأسد”. كلّ الناس “مشاريع خيانة” وضلال إلا “الحزب” وجمهوره، فأين الشراكة في الوطن وأين احترام الرأي الآخر وأين الاعتراف بوجود آخرين وأين حجج الإقناع إن كان الإجماع شبه مستحيل؟
لن يفضي هذا الطريق إلا الى تفكّك وصدامات على كلّ صعيد. ها نحن نشهد حادثاً فردياً في قرية تعايش تاريخي يتحوّل طائفياً يوجب تدخّل الجيش والعقلاء والمصلحين. وها نحن نشاهد بخجلٍ شيخاً يُطرد من مكان يبيع فيه سلّة تين، ثم توقيفٌ على الهوية لسائقي “فانات” وضربهم بأسلوبٍ مشين، والحبل على الجرار، خصوصاً ان المنظومة التي شكّل “الحزب” عمادها أوصلت اللبنانيين الى تسوُّل الدواء والرغيف والوقوف بذُلّ على محطات البنزين، وجعلت الناس تسترخص المشاكل طالما باتت تحت خطّ كرامة العيش وفي أسفل السافلين.
لم يكن “حزب الله” يحتاج الى اجماع حين اجتاحتنا اسرائيل، وهو مصيب. فتحرير الأرض بدأ ببيان جورج حاوي ومحسن ابراهيم، ودشنته قنبلة “محطة أيوب”، لكن الاستمرار في ازدواجية السلاح بعد التحرير يخرج عن الحد الأدنى من التوافق خصوصاً إذا كان السلاح، بمجاهرة اصحابه، جزءاً من مشروع عقائدي وفي إمرة دولة اقليمية كبرى يقودها “الولي الفقيه”.
هذا الطريق يسير بنا نحو الخراب العميم. لا يستطيع لبنان تحمّل تبعات مشروع “الحزب” الاقليمي وانعكاسه على المستوى الداخلي. سئم الناس من الحروب المتناسلة منذ العدوان الاسرائيلي الشهير على مطار بيروت في 1968. عاشت اجيال كاملة نصف قرن على وقع الحروب الاقليمية والتقاتل الداخلي، لننتهي بالكارثة الاقتصادية وبجريمة تدمير نصف العاصمة الحيوي.
لا بديل من الدولة، ولا مفرّ من العودة الى كل ما تقتضيه، وإلا “تمتَّعوا” بارتسام خطوط التوتر على امتداد لبنان وتحضّروا لما بعد بعد الارتطام الكبير.