يذهب الأستاذ أرجون أبادوراي في كتابه المتميز «الخشية من الأعداد الصغيرة: مقالة في جغرافية الغضب» إلى القول بأن «هناك ما يسمى في عالم القرن الواحد والعشرين (الهويات المفترسة)٬ وهي تلك (الهويات) أي (الجماعات) التي تشعر بتأزم في مجتمعها٬ سواء كان حقيقًيا أو متخيلاً٬ فترد على ذلك المتخيل بطريقة تفترس) تلك المجتمعات من خلال تخريب السلم الأهلي فيها باستخدام العنف المفرط٬ بدعوى حماية النفس أو حماية شعار ما يمكن تسويقه إلى العامة٬ أو ملاحقة الأعداء الحقيقيين أو المحتملين». يقيني أن «حزب الله» اللبناني مؤمن بتلك النظرية ويطبقها٬ وهي «افتراس المجتمع اللبناني» عن طريق تصفية بعض سياسييه٬ فكثير منهم مشروع اغتيال٬ أو اختطاف المجتمع وإرهابه٬ وإن كان ممكًنا «افتراس مجتمعات أخرى قريبة»٬ لأن أي عاقل في لبنان أو خارج لبنان لا بد أن دار بخلده التساؤل المركزي والمهم: إلى أين يريد «حزب الله» أن يأخذ لبنان؟ ليس سًرا أنه يريد أنُيلحق لبنان بـ«ولاية الفقيه»٬ أي بتجاوز الدولة الوطنية والتراب الوطني اللبناني٬ ويرسل ميليشياته إلى الجوار لإلحاق الجميع بمشروعه. السؤال: هل يمكن أن يضع حزب الله كل لبنان تحت جناح الفقيه؟! أين ستذهب الطوائف الست عشرة الباقية من تركيبة لبنان الاجتماعية السياسية المذهبية؟ وإذا كان ذلك شبه مستحيل فإن الخيار هو افتراس الدولة اللبنانية والهيمنة على المجتمع عن طريق العنف٬ وهو ما يحاول «حزب الله» في لبنان اليوم أن يحققه٬ ولأن المشروع كله منكشف على الوهم٬ يخرج نصر الله على الجميع عند الإحساس بالفشل بالقول إنه يفخر أكثر ما يفخر في حياته كلها بموقفه في خطابه الذي ألقاه عشية تدخل التحالف العربي لإنقاذ الشرعية في اليمن! وهو إبحار خارج الشعارات المعلنة وخوض في قضايا هي أكبر من قدرة الحزب وإمكانياته.
ُيجمع كثير من المحللين على أن ظهور حسن نصر الله المتكرر في الأسابيع الأخيرة على التلفزيون ينبئ عن قلق شديد٬ وقد تشوش في المخيلة الحزبية٬ جراء ما اتخذته دول الخليج من قرار٬ وهو اعتبار «حزب الله» حزًبا إرهابًيا٬ بالضبط مثل اعتبار «داعش» جماعة إرهابية أو «القاعدة»٬ وينطبق عليه كما ينطبق على داعش» وكل الإرهابيين من ملاحقة وتعقب. ظهور نصر الله التلفزيوني والطريقة المتشنجة التي يتناول بها الأمور السياسية في المنطقة تقنع محازبيه فقط٬ بل والأدق تقنع الملاصقين له٬ وهم فئتان لا غير؛ فئة لها مصالح مادية معه٬ وفئة أخرى ما زالتُمغيبة. ليس صحيًحا أن كل الطائفة الشيعية العربية الكريمة في لبنان أو خارجه هي مع منطق أو أعمال أو خطاب نصر الله٬ معه أقلية٬ أما الأكثرية فهي تقع في إطار إرهابه. «حزب الله» يتجاوز الدولة الوطنية٬ وما مشاركته في الوزارات المختلفة في العقد الأخير إلا لذر الرماد في العيون٬ فتلك المشاركة لم تستطع داخلًيا حتى حل «مشكلة الزبالة المتفاقمة في مدن لبنان»٬ فكيف له أن يشارك في حلول قضايا كبرى اقتصادية وسياسية٬ وهي أكثر تأثيًرا على المصالح اللبنانية. الأحزاب الأخرى اللبنانية تعرف أن حزب الله «هوية مفترسة»٬ ومن تجاوز تلك الحقيقة من الأحزاب أو التيارات أو حتى الأفراد السياسيين٬ إما انتهازية وإما خوًفا٬ فعليه أن يراجع نفسه٬ ويعود إلى لب المشكلة اللبنانية٬ وهي أن بلاًدا لا يستطيع مجتمعها أن يعيش بسلام في وجود سلاحين؛ واحد المفترض للدولة٬ وآخر لميليشيات مؤتمرة بأمر الخارج. في الحقيقة لبنان مسلط على رأسه مسدس يحمله «حزب الله»٬ وكل ما هو غير ذلك «تكاذب»٬ وعلى الجميع أن يعودوا عنه! ليس جديًدا القول إن اتكاء «حزب الله» لترويج احتفاظه بالسلاح هو على قضيتين؛ الأولى هي «محاربة إسرائيل»٬ ويستطيع أي مراقب أن يراهن على أن صمت الحدود اللبنانية الجنوبية هو «صمت أبدي» تدرج في الأبدية منذ حرب عام ٬2006 حتى صمت نهائًيا مع الاتفاق الغربي الإيراني في 4 يوليو (تموز) ٬2015 فلن يسمع اللبنانيون حتى طلقة واحدة في تلك الأنحاء٬ بل ربما أكثر الأماكن أمًنا في لبنان اليوم هو الجنوب٬ لأن أفراد حزب الله المسلحين غير مسموح لهم بالاقتراب! أما القضية الثانية فهي «محاربة أميركا»٬ وهو أمر لا يحتاج المراقب إلى أن يؤكد نهايته٬ بسبب تلك الاتفاقات التي لم تعد سرية بين الولايات المتحدة وإيران٬ راعية حزب الله وممولته ومحطة تصدير الأوامر والنواهي له.
خطابات نصر الله الأخيرة أجدر لها أنُتفسر أنها «حفلات لطم» ما زال محازبوه يغرونه كذًبا أنه مؤثر٬ وحتى الأدوية الشافية علمًيا إْن تكاثر تعاطيها فهي ذات نتائج سلبية لا محالة٬ فما بالك بالخطب الفاسدة! لقد قام من نصح حسن نصر الله بإعادة تكرار تلك الخطب باستنزاف صورته٬ بل في المحصلة فإن تلك الخطب التي تعتمد على التدليس وعد الموضوعات على أصابع اليد٬ هي تعطي زاًدا لتماسك مجتمعات الخليج مع حكوماتهم على غرار ما قاله المتنبي.. إذا أتتك مذمتي..
إلى آخر البيت المشهور٬ الذي أعتقد أن حسن نصر الله يعرفه حق المعرفة.
ما يتوجب أن يعرفه حسن نصر الله٬ ولا شك عندي أنه يعرفه٬ أنه يأخذ المجتمع اللبناني إلى المجهول٬ فأي عاقل يعرف معرفة اليقين أن لا أمل في تجليس صديقه بشار» على كرسي الحكم في سوريا بعد أن قتل أكثر من ثلاثمائة ألف سوري٬ وحَّول٬ بمساعدة «حزب الله»٬ معظم المدن السورية إلى خرائب٬ وهّجر ملايين منهم إلى الخارج٬ ذلك لا يستقيم مع المنطق ولا حسابات التاريخ. كما أن حسن نصر الله لا شك يعرف أن مجرد تحقيق مصالح إيران مع الغرب في وقت ليس بعيًدا٬ تصبح ورقته قابلة للتفاوض مهما تعدد خروجه بزينته على قومه من خلال الفضائيات٬ فهو «كارت» لا أكثر ولا أقل. كيف يقنع نصر الله نفسه٬ وليس الآخرين فقط بأنه يدافع عن «المستضعفين في اليمن» ويساهم في قتل المستضعفين الأكثر من جيرانه في سوريا! وكيف يسكت عن ظلمه لمواطنيه اللبنانيين ويتحدث عن ظلم آخرين في بلدان أخرى. وكيف يدافع عن الدولة في مكان وهو ينتهك أقل ما تمثله الدولة في وطنه بالدخول في حروب لا تستشار فيها الدولة!
يقيني أن خطب نصر الله فقدت صلاحيتها٬ كما فقد الحزب صلاحياته. قوة الحزب اليوم في لبنان ليس بسبب قدراته٬ لكن بسبب تخاذل الآخرين في الوقوف الصلب أمام افتراسه!
آخر الكلام:
ما يجعل حزب الله متوتًرا ومزايًدا هو أن مموليه يعدون أنه فشل في تصدير «النموذج» إلى بلاد عربية أخرى٬ فأصبح عبًئا وليس عوًنا!