IMLebanon

قراءة في مشهد الاغتيال

 

 

يعيش المجتمع اللبناني حالة من الصدمة والذهول بعد الغارات الإسرائيلية العنيفة التي استهدفت مقر القيادة الرئيسية لحزب الله في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، رغم عنف الغارات والضربات والآثار التدميرية على الصعيد المادي الذي خلّفته تلك الغارات العنيفة، إلّا أنّ الحدث الأكبر والجلل هو تلك الشخصية المستهدفة التي تبيّن، لاحقاً، أنه تم اغتيال رأس الشيعية السياسية في لبنان وربما في المنطقة والشخصية الشيعية الأقوى في المنطقة وهو السيد حسن نصرالله الذي يترأس أكبر تنظيم مسلح خارج عن نطاق الدولة على النطاق الإقليمي. وهذا الحدث هو بمثابة زلزال كبير سوف يغيّر قواعد التوازن السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، وفقاً لما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي أن هذه الضربات سوف تغيّر موازين القوى. هذا الحدث الأمني له تداعياتٌ كبيرة؛ حيث يُعتبر نقطة تحوّل في الحرب القائمة، ونتائج الاغتيال السياسي هذا سوف تعيد ترتيب الوقائع السياسية على المستوى الداخلي المتعلق بالملف اللبناني والإقليمي المتعلّق بملف الشيعية السياسية وحضورها السياسي في لبنان وإقليمياً، ولكن الأمور لا تزال ضبابية تجاه نتائج هذا الحدث، ولكننا نستطيع أن نحلل بعض الوقائع فقط لأن الكثير من المعلومات والمعطيات غير متاحة حتى اللحظة هذه، وأردت الإشارة إلى هذه النقطة من باب التواضع كي لا نقع في فخ التسرّع والحكم قبل اكتمال الصورة.

الشخصية المعنوية

لم يعد موقع السيد حسن نصرالله محصوراً بالأهمية التنظيمية والسياسية، فحسب؛ بل تخطّى هذا الموضوع، وأصبح رمزاً مقدّساً لا يمكن المساس به أو التعرّض له لجمهور واسع وكبير، عبر التراكم السياسي والتنظيمي والتفاعل مع قضايا المنطقة، استطاع حسن نصرالله كسب شعبية كبيرة جعلته أيقونة في نظر الملايين؛ حيث أصبح شخصية تفوق حجم حزبه السياسي، لا بل أصبح أكبر وأهم من رؤساء دول في المنطقة. أثناء توليه أمانة الحزب، حقق الكثير من الانتصارات على المستوى العسكري والسياسي، إضافة إلى أنه أعطى الشيعة كأحد المكوات السياسية في لبنان وزناً سياسياً كبيراً مما منحه مكانة كبيرة في قلوب جمهوره.

مع اغتيال قاسم سليماني في العراق، سنة 2020، إزداد ثقله السياسي مع انتقال قيادة محور المقاومة من قيادة فيلق القدس إلى حزب الله تحديداً إلى الضاحية، وتمحورت في شخص أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، ومع غيابه عن المشهد العام، سوف يترك فراغاً كبيراً يُصعب أن يملأ من أي قيادة سياسية بالرغم من أن حزب الله يتمتع بطابع تنظيمي تسلسلي هرمي؛ وهو لا يقوم على شخص؛ إنما على مشروع وفكر عقادئي وعمل مؤسساتي، ولكن في حالة السيد حسن، فالفراغ سوف يكون سيد الموقف ومشروع المقاومة تعرّض إلى نكسة كبيرة والشيعية السياسية في لبنان اليوم أصبحت في حالة يُتم، وقد تكون دخلت في مرحلة ركود وضعف نتيجة الضربات الموجعة.

الشأن الداخلي اللبناني

يُعدّ حزب الله بقيادة السيد حسن اللاعب الأهم والأقوى في المشهد السياسي اللبناني ذي التعقيدات الكثيرة التي يُصعب معالجتها بسبب طبيعة النظام السياسي والطائفية السياسية المتجذرة، منذ قراره الدخول في اللعبة السياسية بشكلٍ رسمي، في سنة 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تكوّن تحالف سياسي انتخابي عُرف بالتحالف الرباعي، أصبح حزب الله الرقم الأهم والأصعب في ميدان السياسة اللبنانية، لا تتشكل أي حكومة أو يتم انتخاب رئيس للجمهورية بدون موافقة حزب الله، ولا أي تعيينات حكومية أو إدارية على المستويات كافّة بدون موافقة حزب الله، كل ذلك كان تحت قيادة حسن نصرالله، وقوته السياسية جاءت من عناصر متنوعة: النقطة الأولى؛ من حيث قوته وحضوره ضمن بيئته الداخلية الحاضنة؛ حيث اكتسب الشرعية والمشروعية خصوصاً بعد أن انتقل المجتمع الشيعي كمكوّن اجتماعي يعاني حالة الحرمان إلى حالة متسيّدة في الواقع العام، وإلى تسيّد المشهد اللبناني السياسي والعسكري وحتى الاجتماعي، النقطة الثانية؛ فلقد جاء حزب الله في وقت فراغ الدولة وعدم قدرتها على الدفاع عن الجنوب اللبناني المحتل وحلّ مكان الدولة في العمل الاجتماعي والتنموي والدفاع عن الأرض والرفع من شأن الشيعة بعد أن كانوا يشعرون بالطبقية من قبل المكونات الاجتماعية الأخرى.

اليوم، هذا المشهد سوف يختلف، ولن يعود كما كان سابقاً، فغياب السيد حسن والعطب الذي أصاب التسلسل الهرمي للتنظيم وكسر هيبة الحزب أمام بيئته التي زرعها، طيلة سنواتٍ طويلة، سوف يكون لها تداعيات سيكولوجية وسياسية في اللعبة الداخلية؛ مثل انتخاب رئيس جمهورية وتكوين تحالفات سياسية وفرض معادلات سياسية رغم بقاء قوته الاجتماعية، ولكن هذه الحرب كشفت الهوة والفجوة بين المكوّن الشيعي السياسي والاجتماعي وبين كل المكونات الأخرى التي عانت كثيراً من ممارسات الحزب السياسية وعمليات الاغتيالات التي مورست بحق المعارضين وكل الأصوات التي صدحت في وجهه؛ حيث كانت كل أصابع الاتهام توجه إلى الحزب، فضلاً عن استعلائه في الممارسات السياسية واستخدام انتصاراته العسكرية الخارجية لتغيير المعادلات الداخلية.

الواقع الإقليمي

يُعدّ حزب الله رأس حربة في المشروع الشيعي السياسي في المنطقة وهو رأس مشروع المقاومة، فهو الأكثر تنظيماً وحضوراً وتماسكاً بين كل المليشيات في المنطقة، لذلك هو يمثل الجانب الأهم على مستوى العملياتي في هذا المشروع.

بعد اندلاع الثورة السورية، في سنة 2011، قرّر حزب الله الدخول في ذلك الصراع لأسبابٍ لا مجال لذكرها هنا؛ حيث دارت معارك كثيرة بينه وبين المعارضة السورية، وهنا، حقق مكاسب سياسية على المستوى الإقليمي وقد تحوّل الحزب من مقاومة للعدو الإسرائيلي إلى قوة إقليمية متنقلة في كل من العراق وسوريا واليمن وله خلايا في كل من الكويت والبحرين، فلقد ساهم في المعارك الدائرة في العراق وسوريا حتى إنّه قام بمساعدة الحوثيين في اليمن ضد القوات السعودية. هذا الانخرط في الملفات الإقليمية جعلت منه قوة إقليمية لا يستهان بها؛ وأصبح أقوى تنظيم شيعي في المنطقة. وهذا الانفلاش أعطاه وزناً سياسيًّا، ولكن مع اغتيال قاسم سليماني في العراق، سنة 2020، اكتسب الحزب قوة إضافية مع انتقال الثقل القيادي من قاسم سليماني إلى حسن نصرالله، فانتقلت القيادة من الحرس الثوري إلى حزب الله، إضافةً إلى عامل مهم وهو الفراغ العربي والتخلّي عن الملف الفلسطيني، فهذه القضية تُعتبر رابحة، بالمعنى السياسي والمصلحة البراغماتية، كونها قضية محقة؛ من حيث التاريخ وارتباطها بالدين والعقيدة، فحمل حزب الله لواء تلك القضية، وحقق فيها نتائج مبهرة في بداية عمله كحركة مقاومة عندما تم تحرير لبنان، سنة 2000، وانسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني، وفي حرب تموز، سنة 2006، رُفعت صور حسن نصرالله في الأزهر الشريف وفي بيوت الملايين من الشعب العربي، ولكن رصيده الكبير بدأ بالتلاشي تدريجياً، منذ 7 أيار 2008، عندما اجتاح بيروت ومناطق لبنانية أخرى، وسقط من وجدان الشعوب العربية عندما تدخّل في الثورة السورية إلى جانب بشار الأسد ونظامه، فسقط رصيده الكبير. ولكنه أصبح، بالقياس التنظيمي والسياسي، قوة إقليمية قادرة على تغيير المعادلات السياسية والعسكرية.

 

ولكن، كل تلك القوة التي كان يمتلكها الحزب قد تلاشت بشكلٍ كبير في لحظات، لا نستطيع جزم هذا الأمر، ولكن المعطيات التي تشير حتى الآن تقول أن الضربات تحتاج إلى سنوات من أجل التعافي منها. في أيامٍ معدودة، لقد قامت إسرائيل بعمليات نوعية ابتداءً باختراق البيدجرز وصولاً إلى اغتيال حسن نصرالله وأهم شخصية في محور المقاومة في المنطقة، هذه الضربات سوف يكون لها آثار في كل من سوريا والعراق، لأن الكثير من كوادر الحزب مستقرة هناك، ولكن بعد التخبط الحاصل في صفوف الحزب، قد يحتاج من أجل لملمة صفوفه استحضار الكوادر الخارجية، مما يعني تشكيل واقع إقليمي جديد. فإن دخول الحزب في الحرب سوريا كان له نتائج كبيرة وداعمة للنظام السوري.

 

ولكن هذا الارتباك الحاصل اليوم يفتح باب تساؤلات عدة، نحتاج الإجابة عنها، مثل كيف استطاعت حماس المحاصرة في غزة أن تصمد ولم تخرق أمنياً بالشكل الذي اصاب الحزب في بضعة أيام؟ لو اخترقت حماس كما اخترق الحزب لكانت سقطت حماس، منذ اللحظات الأولى من معركة الطوفان. تبيّن أن حماس تفاعلت مع العقل الإسرائيلي وباتت تفهم كيف يفكر من خلال احتكاكها الدائم، أما حزب الله فلم يعد يملك تلك المقدرة لأنه تلهّى بملفات أخرى جعلته يفقد القدرة على فهم العقل الإسرائيلي.

الثورة السورية

أعتقد الحزب أن في حربه في سوريا قد اكتسب الخبرة الكافية تخوّله لمقارعة قوى إقليمية؛ مثل إسرائيل، ولكن في الحقيقة كانوا يحاربون معارضة لا تتمتع بالخبرة العسكرية الكافية، ولا تملك القوة العسكرية اللازمة ولا المعدات القادرة على الصمود، رغم ذلك فلقد حققت المعارضة السورية المسلحة انتصارات كادت تُسقط النظام السوري وحلفائه ومن ضمنهم حزب الله، ولولا تدخّل الروسي لكانت الأمور مختلفةً تماماً، فالتدخّل الروسي وطيرانه الحربي هو من حسم المعركة بالإضافة إلى تغيّر الرأي العام خصوصاً بعد خروج داعش؛ حيث استفاد منها النظام السوري وحلفاؤهم في حسم معركة الرأي العام وإنهاء ملف الثورة إلى جانب أسباب أخرى ليس ها هنا مكانٌ للحديث عليها. ولكن في هذا الوقت، كانت إسرائيل تدرس حزب الله في كل تحركاته، تدرس عقله السياسي والعسكري والتقنيات التي يمتلكها في الوقت الذي كان حزب الله منغمساً في الحرب هناك، وعندما جاء إلى الاستحقاق الحقيقي وهو محاربة إسرائيل، تبين ان تلك الخبرة التي اكتسبها لم تكن خبرة حقيقية لأنها معركة غير متكافئة، فاستهان بالقوة الإسرائيلية وخابت توقعاتهم.

البيئة الاستراتيجية

إن أعظم نكسات حزب الله ليست هزيمته العسكرية اليوم، لأن هذه الهزيمة يمكن إعادة ترميمها بوقتٍ قصير، ولكن الخسارة الحقيقية هي خسارة البيئة الاستراتيجية التي تحيط بالبيئة الحاضنة، وهي البيئة السنية الممتدة في كل من العراق وسوريا ولبنان، والمسيحية والدرزية وغيرها، ففي حرب تموز، سنة 2006، كل المجتمع اللبناني والعربي تضامن مع حزب الله وبيئته، ولكن اليوم تبدّل الواقع بعد انغماسه في دماء السوريين وملفات آخرى؛ كالملف البحريني واليمني ما ولد كراهية تجاهه وتجاه بيئته بسبب الممارسات الاستعلائية التي قام بها، هكذا، تحوّل الاستعطاف الذي كسبه، في حرب تموز، إلى حالة من الكراهية؛ ووُلد الطلاق بين البيئة الحاضنة والبيئة الاستراتيجية وكانت هذه هي السقطة الأهم التي مُني بها؛ إذ لم يعد قادراً على المناورات السياسية في لبنان إلّا من خلال إبراز قوته العسكرية وانتصاراته من أجل تحقيق مكاسب سياسية، كما أن الخصومة مع البيئة الاستراتيجية جعله عرضةً للخروقات الأمنية.

خسارة زمام المبادرة

مع بداية عملية طوفان الأقصى، بدت دولة إسرائيل في حالة من التخبط الشديد والإرباك؛ حيث تبيّن أن هذا الكيان هو كيانٌ هش غير قابل للصمود لولا الدعم الغربي والأميركي على وجه التحديد، لذلك جاءت الأساطيل الأميركية لمساندة إسرائيل، في هذه اللحظات، كان زمام المبادرة مع حزب الله الذي كان قادراً على تنفيذ عمليات واسعة بدل عملية الإسناد التي أثبتت فشلها، ولكن نتنياهو استطاع تغيير المعادلة وامتصاص الضربات بعد أن قام بتدمير غزة، فتفرغ للجبهة اللبنانية؛ حيث انتقلت المبادرة إليه خصوصاً بعد الخرق الكبير في عملية البيدجرز والاغتيالات لقياديين من الحزب، مما أدّى إلى قطع التواصل أفقيّا وثم عاموديًّا؛ واندثر التواصل ضمن القاعدة الهرمية التنظيمية. هكذا، تم تقطيع أوصال التواصل بين القيادات وفقدان القدرة على المواجهة وأخذ المبادرة.

خلال أسبوعين، تغيّر الشرق الأوسط بشكلٍ كبير، لم تقتصر التغيرات على معادلات النفوذ وتقاسمها بين النفوذ الإسرائيلي المتزايد وبين الحضور الإيراني عبر التنظيمات التابعة له؛ مثل حزب الله، إنما التغيّر سوف يكون له تداعيات على مستوى الخريطة السياسية للشرق الاوسط، فإن استطاعت اسرائيل تحقيق أهدافها الاستراتيجية من العمليات العسكرية التكتيكية في لبنان وهي عودة المستوطنين إلى الشمال الفلسطيني، فهذا يعني أن إسرائيل أدركت أن الحل لن يكون إلّا من خلال الحل العسكري في الضفة الغربية. ففي خطابه في الأمم المتحدة قبيل اغتيال السيد حسن نصرالله، حمل نتنياهو خريطتين: الأولى أسماها المباركة blessing، والثانية أسماها اللعنة curse، ولكن المشترك بين الخريطتين غياب الضفة وغزة عن الخريطة الفلسطينية؛ حيث لا دولة فلسطينية ضمن المعادلة الإسرائيلية، مما يعني أن كل الطروحات العربية وبعض الغربية لم تقنع الإسرائيلي بأن السلام وإقامة الدولة هما الحل الأنسب لكل الاطراف، فهو نسف في هذه الحرب كل المعاهدات؛ كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو. لعلّ النخب العربية تدرك أنه لا سلام مع دولة تريد أن تقضم كلًّا من الأردن وسوريا ولبنان وجزءاً كبيراً من العراق وجزءاً من مصر ومكة والمدينة. هذا هو السلام الذي لا يترسّخ إلّا عبر قضم كل تلك الأراضي وضمّها إلى إسرائيل الكبرى.