«كل شيء في الديكتاتورية على ما يرام إلى الربع ساعة الأخير قبل الإنهيار» (هانا ارندت)
الدرس الأكبر الذي يتجاهله الجميع، إلى أن تأتي ساعة الحقيقة، ساعة السقوط المدوي، ساعة الندم حين لا ينفع، هي تجارب السابقين. المصيبة الكبرى هي إدمان نشوة الإنتصار وشارات النصر المرفوعة على جثث الضحايا من الأنصار والاعداء معاً، وغالباً ما تختلط جثث وأشلاء الطرفين في ساحات الوغى، ليخرج قائد ما، متحصن تحت سابع أرض خلال المعارك، ليحصد المجد والكبر، وحناجر الآلاف تهتف له «لبيك يا فلان، لبيك يا فلان…». بعض المنتصرين قد يكونون حكماء بالفطرة، أو ربما متواضعين فطنين يستمعون لنصائح الحكماء، فيعرفون متى وكيف يتوقفون عن إدمان نشوة الإنتصار، ويتحررون من قيود الجماهير الهاتفة لهم بطول العمر وهي تقدم لهم الإبن تلو الآخر فداءً لحذائهم. وهم مثل «مولوخ» الإله العبراني القديم الذي كان يلتهم القرابين ضحايا بشرية ليرضى!
لكن هل من الممكن التخلص من الإدمان على النصر في عز النشوة؟!.
مَن كان بإمكانه أن يقنع نابوليون بونابرت سنة ، بعد كل الإمبراطوريات والممالك العريقة التي دمرها ووضع شعوبها تحت سلطته، بأن يتواضع ولا يذهب إلى مغامرته الروسية القاتلة، وهي التي أدت بالمحصلة إلى نهايته في «واترلو» بعد سقوط مئات الآلاف من خيرة شباب فرنسا.
من كان سيقنع «أدلف هتلر» في الخامس والعشرين من حزيران سنة بعدم الرقص فرحاً بسقوط فرنسا بسرعة لم يتوقعها هو نفسه أمام جحافل الجيش النازي، وبعد أن أصبحت أوروبا كلها في يده، بأن يتواضع قليلاً ويقف عند حدود امبراطوريته فلا يسقط مجدداً في ثلاجة روسيا مستفيداً، ولو قليلاً، من تجربة نابوليون. بعد هزيمته في «ستالينغراد» سنة أصبحت النهاية محسومة، ومع ذلك فقد سقط ملايين شباب وفتيان ألمانيا، ودمرت المدن الألمانية وانتحر هتلر، ولم يتواضع.
أمثلة أخرى مثل صدام حسين منتشياً بحربه الطويلة المكلفة مع ديكتاتور آخر هو الإمام الخميني، فقرر الإنسياق نحو مغامرة جديدة فاشلة في الكويت ولم يتعظ، ومن بعدها أوهام أسلحة الدمار الشامل والخطابات الحماسية عن «ماجدات البعث» و«أبطال اليرموك» و«علوج الأمريكان»، سقط بلمحة بصر وأسقط معه العراق بأكمله، ولا يزال حتى اليوم يسقط الآلاف من الضحايا.
بشار الاسد، الذي أهدر امبراطورية والده بسرعة مذهلة، لم يتواضع هو الآخر، رغم ضعة مؤهلاته، ولم يتمكن من اتخاذ القرار الصائب، في الوقت المناسب، فدفعت سوريا الثمن ولا تزال مئات الآلاف من أبنائها، سنّة وعلويين ومسيحيين وشيعة، ومُسحت مدن من الخريطة، واختفت حضارات من التاريخ، ومازال الغبي ينتظر أعجوبة من ولي الفقيه، مع أن النهاية محتومة.
الولي الفقيه هو نفسه انتشى عندما نصبت راياته على عواصم عربية أربع، وعاد حلم الإمبراطورية ليدغدغ أحاسيسه، متجاوزاً هو أيضاً تجارب من سبقه من المغامرين الحالمين المراهنين على شبان ويافعين يلبسون الأكفان مسبقاً فداءً لعباءة السيد، قرابين رخيصةً على مذبح أسطورة تشبه أساطير أخرى لطغاة سبقوا وسقطوا، وأسقطوا معهم شعوبهم.
حسن نصر الله لاعب صغير بالمقارنة مع هؤلاء، فهو يفخر بمجرد أن يكون «عضواً في حزب ولاية الفقيه»، ومع ذلك فهو لا يزال يعاني من إدمان نشوة الإنتصارات، وهو مستعد، حسب قوله، للتضحية بنصف، أو ثلثي، أو كل شبابه فداءً لنشوته، وأملاً بعودة أسطورية لحلم ماورائي ينقذه من حتمية السقوط الحتمي.
قد كان يأمل بعضنا بلحظة وجدانية يقول فيها السيد كفى، ويتقي الله بأهله، لكن العزّة أخذته بالإثم.
أما نحن البشر فما علينا إلا الصبر والثبات، فما «النصر إلا صبر ساعة واحدة» وهي آتية رغم فجور ومكابرة الظالمين.
()عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»