IMLebanon

نصرالله رسم طريق التسوية

سيتحقّق للبنان عهد جديد. بهذه العبارة خرج سياسيّ عتيق إلى الضوء مطمئنًّا بعد سنتين من الفراغ الرئاسيّ القاتل. إنّه عهد استعادة الميثاق الوطنيّ بتوسيع أطره ومعالمه وتخصيب حضوره على كلّ المستويات السياسيّة باكتمال معظم العناصر المؤسّسة من جديد لاستكانة مليئة بالتوازن والرؤى تطلّ على المدى اللبنانيّ بلا استئثار ولا استثناء ولا استكبار، بل بالانكباب نحو اللقاء مع الجميع لتكوين صيغة ميثاقية صلبة خالية من ثنائيّة أو مجموعة ثنائيّات بل تتجدد وتتجمّل بحضور الجميع حول تلك التسوية المباركة القادرة على الجمع بين المتفرقات بهدوء وتؤدة وحكمة.

الجميع انتظروا تلك اللحظة بعد مجموعة مناورات وتراكمات جوّفت الرئاسة من معناها الأصيل وحاولت تجويف ترشيح العماد ميشال عون من المعطى المكنون فيه وهو معطى مسيحيّ قويّ كصفة وفعل وتمثيل، ومعطى آخر ميثاقيّ بامتداده على الطوائف كافّة وتشديده على الشركة الكاملة مع الجميع وبلا انتقاص ولا اقتناص، ومعطى أخير مشرقيّ حاو لهواجس المسيحيين المشارقة والعرب، وممتدّ على آفاق معاناتهم في كل صقع ومدى أمام العواصف الهوجاء الهابة ما بين سوريا والعراق. ثلاث معطيات على الأقل كافية لإبراز قوة الرجل المؤهّل بامتياز للوصول إلى الرئاسة، والاتصال بلبنان كلّه من موقعه كرئيس للجمهورية اللبنانيّة، وكحارس لسيادة لبنان واستقلاله على حدّ تعبير الرئيس سعد الحريري.

المشهد المترامي أمامنا من بيت الوسط تسوويّ متكامل في الهدف، ولم يحمل في طياته أسس الاستيلاد والامتصاص والاستهلاك، ويعرف الكثيرون بانّ العماد عون عصيّ على صفات تحاول تطويعه بالمعنى السياسيّ بأخذه إلى حيث لا يشاء. فأمسى التصويب والتوضيح ضروريين في فهم أسس الدعم التي وضعها الرئيس الحريريّ كمسوّغات وأسباب موجبة لإحياء الدعم وإنضاجه في بيئته وفي بيئات أخرى شريكة. وفي حقيقة الأمر، العماد ميشال عون لم يناضل طوال تلك الحقبة الزمنية حتى ينتهي بالتلاشي المطلق، فيظهر أمام الناس مستولدًا ومستوردًا، وعنده أن الرئاسة لا تولد إلاّ من موقعها الدستوريّ والأكيد والميثاقيّ الصلب، وفي فهمه بأنّ الميثاق قلب الدستور، الدستور وليد الميثاق من خلال مقدمته وتحديدًا بهذا البند القائل، «بأن لا شرعية لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. ما حدث في بيت الوسط ليس ولادة من رحم، بل هو تكامل في الجوهر بين نقيضين متوازنين تواجها سياسيًّا في القراءة للواقع اللبنانيّ والواقع العربيّ، وفهم كلّ طرف بأن التكامل يتجلّى بعبور الرئيس سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة من باب قبوله ودعمه ترشيح العماد ميشال عون، أي أنّ العماد ميشال عون هو المعبر الرئيسيّ لوصول سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. ويجب الاعتراف هنا وفي هذا المجال بأنّ «ميكانيزم» العبور المتساوي في الجوهر أي جوهر الحكم ما كان له أن يتمّ لولا رافعتان أساسيتان تكاملتا حول ترشيح العماد عون في المعادلة السياسيّة، واحدة مسيحيّة وأخرى شيعيّة، أي القوات اللبنانيّة وحزب الله. مبادرة سعد الحريري الحاسمة  وفي بيانه المتوازن بحدود معقولة، أبطل كل شكّ ونقاش وأكمل ما قد قام به حزب الله والقوات اللبنانيّة. كلّ هذا من شأنه أن يقود الباحث والقارئ  إلى الاستنتاج المطلق بأن ترشيح العماد عون ميثاقيّ بإطلالته المسيحيّة والسنيّة والشيعيّة وربما الدرزيّة، وهي الطبقات الأساسية لتكوين هذا الترشيح وتبويبه وتوسيع نطاقه وآفاقه بحيويات أو ديناميات ساعية لدفن الفراغ والوصول إلى الانتخابات الرئاسيّة، واستكمال الاستقرار الأمنيّ المرسوم من الخارج وترسيخه وتدعيمه بالاستقرار السياسيّ المتولّد بتلاقي الجميع وتعاونهم في الحكم بدءًا من رئاسة الجمهوريّة إلى رئاسة المجلس النيابيّ ورئاسة الحكومة.

الأوساط السياسيّة المواكبة تشترك بالتوصيف إلى أنّ المسألة لا تنتهي بحدود الترشيح أو دعمه أو رفضه من عدد من النواب ومنهم أيضًا عدد نواب كتلة المستقبل. بل تنتهي باتفاق كامل على شكل الحكومة ومضمونها السياسيّ. لقد أعلن الرئيس الحريري أن العماد ميشال عون سيكون رئيسًا لكلّ اللبنانيين، وحارسًا لهم ولسيادتهم، وتلك مسلمة بديهيّة وطبيعيّة، لكنه أرفقها بأمر آخر وربطها به وهو بأنّه اتفق مع العماد عون على الحفاظ على الدولة في الفضاء المشترك المتلاقيين فيه، وعلى تحييد لبنان عن النزاعات في سوريا، بحيث تستعاد العلاقات الطبيعيّة والموضوعيّة مع سوريا بعد انتهاء الأزمة فيها. وهذا يدلّ في حقيقة الأمر على تنفيذ ورقة بعبدا الشهيرة وعنوانها النأي بالذات.

لقد بات لزامًا هنا ووفقًا للأوساط المواكبة توضيح بعض الأمور الضرورية المتصلة بتلك الرؤية. هل فعلاً اتفق العماد ميشال عون مع الرئيس الحريري على مبدأ النأي بالنفس عن الصراع، وما هو الثمن المطلوب؟ للعماد عون وسعد الحريري أن يوضحا معايير النأي بالنفس سيّما أنّ هذا المبدأ ضروري في بعض من جوانبه وعدد كبير من اللبنانيين تواقون إليه. مصدر سياسيّ جذبته تلك الفقرة الحامية بل الشديدة الحماوة، تساءل عن كيفية تحييد لبنان من الصراع في سوريا وعليها، فيما تيار المستقبل وحزب الله طرفان كبيران متحركان في قلب الصراع شكلاً ومضمونًا؟ لقد اعتبرت هذه الاوساط أنّ معنى التحييد في ظهوره وتمددّه السياسيّ وهو الثمن انسحاب حزب الله من القتال في سوريا، فلا معنى للتحييد إلاّ بمعنى الانسحاب من قلب المعركة، وهذا يقتضي في الحقيقة بحثًا دقيقًا جدًّا بين الحريري وعون، وبين عون وحزب الله، وبين تيار المستقبل وحزب الله.

ثمّة أمر آخر أضاء عليه الحريري بالتكامل مع تلك المسألة وهو الالتزام باتفاق الطائف والدستور اللبنانيّ، فتتفرّع عن مبدأ الالتزام مسائل دقيقة تعنى بصلاحيات رئيس الجمهورية وصلاحيات رئيس الحكومة، فتظهر الكلمات جامدة ومتكلسة وخالية من تبديل أو تعديل وفقًا للاتفاق الحاصل بينهما في محادثتهما الأخيرة في الرابية. هذا الكلام في الحقيقة لفت كثيرين في العمق، ذلك أنّ العماد عون ناضل بشراسة ولا يزال يناضل حتى تستعاد الصلاحيات وبخاصّة في المادة 49 من الدستور فتتوازن صلاحياته مع صلاحية رئيس الحكومة. لكن المنطقة الملتهبة دخلت في مراحل متقدمة تسوية جذريّة تقتضي وكما أوحي منذ سنة بكتابة دساتير جديدة في سوريا والعراق، أي تكوين أنظمة مرنة ومعتدلة تتأسس على الشركة فهل يكون لبنان بشكله الحالي وبعد انتخاب الرئيس بعيدًا عن السياق التكوينيّ المفترض للمنطقة بأسرها؟

وفي النهاية، إنّ دعم الحريري ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة بادرة خير وعافية، على الرغم من التناقضات الجوهريّة القائمة في أدبياتهما السياسيّة وتحالفاتهما. يبقى أن نفهم إذا كان هذا الترشيح سيؤدّي إلى تفاهمات شاملة الكلّ وبخاصّة أولئك الذين يصرّون حتى الآن على رفض وصول العماد ميشال عون إلى السلطة؟

الجواب على ذلك بأنّ ما بعد ترشيح الحريري لعون مختلف حتمًا عما كان قبله. فالبلد بالمعنى السياسيّ بات أمام معطى جديد يختلف بمساره عن المعطى السابق. وللأمانة، يقول سياسيّ محنّك أنّ هذا المعطى ما كان له أن يتجسّد لولا رافعة حزب الله وخطابات السيد حسن نصرالله في بنت جبيل والضاحية حيث رسم الطريق باتجاه تلك التسوية، وأدت مؤدّاها اليوم بأن يعلن الرئيس الحريري دعمه لترشيح العماد عون لرئاسة الجمهوريّة. ويؤكّد هذا السياسيّ أنه لو أصرّ الحزب على رفضه نظرًا لاعتبارات المواجهة بينه وبين الحريري في سوريا وموقفهما المتضارب من النظام هناك ما كان لهذه التسوية أن تنضج، والحريري يعرف أن أوراق القوّة لا تزال في حوزة الحزب ويملك القدرة على تحريكها باتجاهات عديدة.