لم تتمكّن أجهزة العدو من تجاهل مواقف الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، الأربعاء الماضي، في الذكرى السنوية للشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. رفع جيش العدو مستوى الجاهزية والاستعداد لمواجهة أي سيناريو، وعكست وسائل الإعلام في عناوينها الرئيسية عن «حال تأهب قصوى» و«جاهزية عالية»، إدراكاً بإمكانية أن تسلك التطورات مساراً مغايراً للتقدير لما كان سائداً قبل الشيخ صالح العاروري ورفاقه. وبما أنّ الإعلام الإسرائيلي جزء من المعركة، يُفهم من هذه العناوين أنّ العدو يوجّه رسالتين: الأولى إلى حزب الله باستعداده للذهاب إلى أقصى الحدود في الرد على أيّ ردّ للحزب، والثانية لطمأنة الجمهور الإسرائيلي الذي «انكوى» بغفلة أجهزته عن توقّع ضربة «طوفان الأقصى» الإستراتيجية التي لن تُحذف من الوجدان الإسرائيلي.أتى اغتيال العاروري ترجمةً لإستراتيجية العدو ضد الساحات والشخصيات التي تدعم المقاومة في غزة، وفي السياق نفسه الذي جاء ضمنه اغتيال القائد في حرس الثورة في سوريا سيد رضي موسوي. كما يتصل بالمرحلة الثالثة (بحسب تسمية جيش العدو) من الحرب التي ترتكز على الاغتيالات. وبهذا المفهوم، فإن ما جرى ليس حدثاً يتيماً، بل حلقة في سلسلة ستطبع هذه المرحلة بعدما اتّضح أنه ليس في الإمكان تدمير قدرات حماس واجتثاثها في قطاع غزة.
في البعد اللبناني، شكّل الاعتداء على الضاحية تجاوزاً للمعادلة التي فرضها حزب الله منذ عام 2006. ولا تنبع الخطورة من الاعتداء نفسه فقط، بل من إمكانية تكراره وتحوّله إلى مسار متواصل. وهنا أهمية رسائل نصر الله، خصوصاً أن تقديرات العدو تستند إلى أنّ حزب الله حريص على تجنّب الحرب، متجاهلاً أن هذا «الحرص» ليس مطلقاً أيّاً يكن ما يقدم عليه العدو، وأن حزب الله سيردّ كما حسم أمينه العام أمس، بما يعيد الكرة إلى تل أبيب وواشنطن معاً، ويضعهما أمام السيناريو الذي حدد نصر الله معالمه، الأربعاء، بأن «الحرب معنا ستكون مكلفةً جداً جداً جداً».
استند اغتيال العاروري ورفاقه إلى رهان على وضع الحزب أمام خيارين: الأول، عدم الرد تجنباً للتدحرج، ما سيفتح الباب أمام التشكيك في معادلات الردع ومحور المقاومة. والثاني، الرد بما يؤدي إلى تدحرج نحو مواجهة تفتح المنطقة على سيناريوهات كبرى تورّط الولايات المتحدة في خيار لا تريده حتى الآن. وفي الموازاة، حاول العدو تعزيز فرص عدم الدفع بحزب الله إلى الرد عبر حصر الهدف بحماس حصراً، وقرن ذلك بأداء سياسي وإعلامي لتأكيد أنّ حزب الله ليس هو المستهدف. لكن نصر الله أحبط هذه السردية بخطابيه هذا الأسبوع، وخصوصاً أمس، حاسماً بأن «الردّ آتٍ لا محالة».
شكّلت رسائل نصر الله إطاراً لتقديرات العدو لدى درس خياراته لمواصلة تجاوز المعادلات
هكذا أطاح حزب الله بهذا الرهان مؤسّساً لتقدير ومسار مختلفين. ولم يكن تأكيد نصر الله أنّ حزب الله ليس خائفاً من الحرب ولا يخشاها تكراراً لحقيقة معروفة، بل كان أمراً مطلوباً في ضوء المتغيّرات التي شهدتها الساحات الفلسطينية واللبنانية والإقليمية. فـ«طوفان الأقصى» أطاح بكثير من المعادلات التي كانت سائدة مع كيان العدو وفي المنطقة. وتحوّلت إسرائيل بموجبه إلى الهجوم بكامل قوتها للحدّ من تداعياته، ما أنتج لدى مؤسسات التقدير والقرار تصوّراً بأن القوى المعادية أصبحت مردوعةً بشكل أو بآخر.
في المقابل، أتت مواقف نصر الله، إلى جانب الأداء العملياتي للحزب على الحدود، لتؤكد أن المتغيرات التي يراهن العدو على أنها ستعيد خلط الحسابات والتقديرات، لم تنجح في تقييد إرادة الرد والدفاع والهجوم متى اقتضى ذلك. وفي السياق نفسه، استهدفت رسائل نصر الله مرحلة ما بعد الاعتداء في الضاحية، انطلاقاً من أنه كلما ارتفعت احتمالات التدحرج إلى حرب واسعة، كلما كانت أكثر تأثيراً في قرارات المؤسّستين السياسية والأمنية في كيان العدو، وكلما أسهمت في كبح اندفاعها في خيار مواصلة هذه السياسة العدوانية. إلى جانب ضرورة إيصال رسالة مباشرة إلى قيادة العدو حول ما سينتج عن رده التصعيدي على أيّ ردّ سيلي اعتداءه الأخير. وهكذا يتّضح أنّ المشهد الذي تشكّل في أعقاب الاعتداء يخالف كلياً تقديرات العدو وما كان يأمله ويسعى إليه.
ولعلّ أهم المواقف التي أعلنها نصر الله، تلك التي بدّدت محاولة العدو استغلال حرص حزب الله على تجنب الحرب انطلاقاً من مصالح وطنية لبنانية، بتأكيده أنه «إذا شُنّت الحرب على لبنان، فإن مُقتضى المصالح الوطنية اللبنانية أن نذهب بالحرب إلى الأخير من دون ضوابط»، في تعبير عن تماهي المصالح الوطنية مع خيار الحرب في مواجهة عدوان إسرائيلي واسع. وهو سيناريو ستكون له في هذه المرحلة تداعياته الخطيرة على مجمل المشهد الإقليمي.
وإذا ما كان لدى أحد توهّم في هذا الاتجاه أو ذاك، فقد بدَّده نصر الله، أمس، عندما بيّن مخاطر عدم الرد على مجمل الساحة اللبنانية كونه سيشجّع العدو على استباحتها. وهكذا يتضح أيضاً أنّ الهدف من الرد هو معاقبة العدو وإعادة تثبيت معادلة الردع التي كانت قائمة، والتي من المؤكد أنها ستصبح أكثر صلابة وستتلاشى معها كل الأوهام والرهانات التي راودت قادة العدو.
بنظرة إجمالية، شكّلت رسائل نصر الله الإطار الذي سيلقي بظلاله على تقديرات العدو لدى درس خياراته لمواصلة تجاوز المعادلات التي كانت حاكمةً على أدائه (الوضع على الحدود أصبح محكوماً بمعادلات مختلفة منذ الثامن من تشرين الأول)، وأيضاً في مواجهة أيّ ردّ مدروس وهادف سينفّذه حزب الله.