IMLebanon

نصرالله على «طاولة الكبار».. فأين الآخرون؟

I ـ تعالوا إلى سوريا!

في ذكرى الشهداء القادة، دعا السيد حسن نصرالله اللبنانيين إلى تدبر مستقبلهم. لا يصنع المستقبل الغائبون عن الصراع، والمنكفئون عن المبادرة، والمنتظرون لما ستسفر عنه الخرائط التي ترسم على «طاولة الكبار».

دعوة «السيد» ليست سهلة وتلبيتها منعدمة، خصوصاً أنها مقترنة بـ «فلنذهب معاً إلى سوريا»، ومن دون هذا الذهاب حقبة مترعة من العداء، مع شريحة وازنة من الشعب اللبناني، سبق أن ذهبت إلى سوريا منذ اندلاع «الربيع العربي» وبلوغه بلاد الشام، وهي حاضرة هناك على طريقتها، في خندق المعارضة للنظام السوري. وهذا الحضور مضاد لإقامة «حزب الله» في سوريا المنتشر في المواقع والميادين، والذي يخوض المعارك بالعناوين كافة: منعا لسقوط النظام الممانع، أو لمحاربة الأمواج التكفيرية، أو لوقف العدوان الذي يقوده محور المسالمة على سوريا.

الدعوة لمواجهة خطر «الدولة الإسلامية في العراق والشام» كعدو مشترك للبنانيين، اليوم وغداً، وللعرب والعالم دائماً، ليست مستقلة عن الإجابة الضرورية لسؤال: من المستفيد من انحسار «داعش»، النظام أم المعارضة أم… أو من يرث هذا التنظيم، المتوحش، النظام أم المنظمات الرديفة لـ «داعش»؟

فريق 14 آذار ليس في وارد الخروج من أحضان محور إقليمي ما زال يدفع مالاً ونفطاً وسلاحاً ودعماً، لإسقاط نظام يبدو أن سقوطه بات بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً، بعد أربع سنوات من التدمير والتدمير المضاد. قد تسقط سوريا كلها، ولا يسقط النظام ولا تنتهي المنظمات. وليس في تفكير «تيار المستقبل» ومن معه مراجعة المواقف، والتدقيق في الأرباح والخسائر والنتائج، فالعداء الخاص جداً بين النظام السوري وفريق «المستقبل»، ليس قابلاً للتراجع، أو حتى لهدنة مزغولة.

دعوة «فلنذهب معاً إلى سوريا» ستبقى بلا جواب. وهذا طبيعي ومنطقي، ورفضها يأتي من داخل سياق الأحداث ومسلسل المعارك وإرث العداء. فلكل طريقته في مواجهة «داعش»، وكما العالم ينقسم في مواجهة ومقاتلة «داعش»، كذلك ينقسم اللبنانيون. فريق مع النظام ضد «داعش»، وفريق ضد النظام وضد «داعش» أيضاً. قد يلتقي الفريقان على تفاهم موضعي، داخلي لبناني، لمواجهة «داعش»، مع إبقاء خطوط التباين واضحة.

ولا يعد ذلك غريباً. فنادراً جداً ما توحد اللبنانيون ضد عدو واحد. وغالباً ما انحاز فريق إلى «عدو». فعدد من أعداء لبنان، أصدقاء وحلفاء لعدد كبير من اللبنانيين. والظن الغالب أنه عندما يتوحد اللبنانيون في تعيين العدو، سيتوحدون لإقامة دولة واحدة، لا دويلات، تعيِّن أعداءها على هواها ووفق مصالحها وعقائدها.

يبقى الأهم في دعوة السيِّد: من سيحضر على «طاولة الكبار» كي يكون شريكاً في صناعة المستقبل، أو في إعادة تركيب هذا «البازل» المبعثر، طوائف ومذاهب وأقواماً وأعراقاً وعشائر وأنظمة، وما تبقى من دول وكيانات متصدِّعة؟

II ـ ديغول أم بريمر؟

انهارت فرنسا أمام الزحف النازي. سارعت قيادات عسكرية وسياسية إلى التسليم بالواقع والتعامل مع الاحتلال. تزعّم الجنرال «المميز» بيتان حملة التبرير، فيما كان الجنرال ديغول يحلم بالتحرير. والفارق بين الموقفين، هو الفارق بين الخضوع والتمرد.

في مذكرات ديغول، كلام عن المعاناة وشعوره بالوحدة والنبذ الذي واجهه به «الحلفاء». لم يخش على دوره. هان على فرنسا من أن تضيع تحت الاحتلال أو «يسرقها» الحلفاء بعد التحرير.

كان على حق. سارعت الولايات المتحدة إلى الاعتراف بحكومة فيشي وأرسلت سفيرها ليكون مقرباً من بيتان. تعاملت أميركا مع فرنسا المحتلة، على أنها دولة فاشلة وخاسرة، يتقرر مصيرها بعد الحرب على «طاولة الكبار». فرنسا المهزومة، بالنسبة للرئيس تيودور روزفلت، هي إحدى غنائم الحرب السهلة. سيكتمل نصاب «الطاولة» من دون فرنسا.

ديغول من طينة القادة التي تصنع التاريخ. راهن على «المستحيل»: مقاومة الاحتلال بالسلاح. صار المستحيل ممكناً. كبرت المقاومة وعظم شأنها. المقاومة تصيب الاحتلال، وصوت ديغول من لندن يهز الوجدان، حتى اضطرت حكومة فيشي إلى معاقبة كل من يثبت أنه استمع الى صوت فرنسا الحرة من لندن.

كبرت المقاومة وعظم شأنها وباتت تشكل ثقلاً ميدانياً يحسب له ألف حساب. لا إنزال في النورماندي من دون دور مساند وافتتاحي تقوم به المقاومة… ودار الزمن وانتصرت المقاومة، وتمكن ديغول، بما له من ثقل مقاوم، من تقرير مصير فرنسا، علماً أنه حُرم من الجلوس إلى «طاولة الكبار» في يالطا لاقتسام العالم. تلك كانت مهمة تشرشل وستالين وروزفلت.

كانت المقاومة وتجمع «الجيوش الفرنسية» الوسيلة الوحيدة لإنقاذ فرنسا من الاحتلال النازي والإلحاق الأميركي.

التاريخ يسجل ما يؤكد القاعدة التي تحدث «السيد» عنها. على «طاولة الكبار»، يتخذ القرار. وبطاقة العبور إلى «الطاولة»، ممهورة بما لدى كل فريق من قوة في الميدان. هذا منطق الحروب وما بعدها، لبنان نموذجاً: حكمت الميليشيات لبنان ما بعد الحرب. هل هذا كافٍ كدليل؟

حدث في تاريخ العرب الحديث ما يثبت صحة القاعدة: بعد حروب عراقية مدبرة ومتعددة وعبثية، أقدم الاحتلال الأميركي على تدمير العراق وإعادة تشكيله، فيما مصر غارقة في ما وراء سيناء، والسعودية ودول الخليج مغتبطة بضعف الشقيق المستبد. بعد الحرب أقدم بريمر، بمفرده، وخلفه جيش أميركي جرار ومدمر، على إعدام العراق وتوزيع إرثه على طوائف ومذاهب وأعراق، بلا جيش ولا إدارة ولا شرطة. أغرق بريمر العراق في الفوضى. فرحت إسرائيل. صمت العرب. فيما إيران القوية المتربصة، وجدت الطريق أمامها سهلاً، فأخذت حصتها وثبتت مواقع أقدامها في نصف البلاد. حلفاء أميركا في العراق أخذوا حصتهم، إما في تكريس إقليم كردستان، وإما في السلطة التي حملتهم إليها ظهور الدبابات.

فصل من فصول العراق بدأ، ولم ينته بعد. دم العراق، أكثر غزارة من آبار نفطه.

III ـ الأمير فيصل ولبنان الكبير

كان المتوقع أن يجلس المنتصرون في الحرب الكونية الأولى إلى «طاولة الكبار» لتوزيع التركة التركية الشهية الممتدة من البحر الأحمر والمحيط الهندي إلى شواطئ المتوسط وضفاف الأطلسي فإلى جبال الأورال… وكان من المفترض أن يحتل نجل الشريف حسين، الأمير فيصل، مقعده بين الكبار، لمساهمته في الانتصارات التي تحققت بتحرير شبه الجزيرة والبلاد الشامية من العقبة إلى حلب مروراً بفلسطين. لكن ذلك لم يحدث. استبعدوه بعدما تنكروا للمواثيق والاتفاقات والتفاهمات التي كانت مدار مراسلات بين حسين ومكماهون، بعيد اندلاع الحرب.

هل كان ممكناً تغيير ذلك المسار؟ ربما. لقد عوَّل فيصل على التفاوض، بشروط الضعف، وليس بقوة من يملك مقاومة ومن يؤسس جيشاً. لقد فضل فيصل الديبلوماسية على البندقية. قبل بتصفية المقاومة في سوريا، بأمر عسكري جاءه من غورو. تلكأ عن دعم مقاومة جبل عامل وعصاباتها القوية، كي لا يغضب قادة الاحتلال، وأخيراً رضخ لحل الجيش في سوريا تحت تهديد احتلالها بالقوة. غير أن قبوله بحل الجيش لم يمنع غورو من احتلال دمشق.

«الكبار» نفذوا ما تم رسمه في اتفاقية «سايكس ـــ بيكو». أقامت سلطات الاحتلال، حكومات وسلطات تابعة لها، حذو الجباه بالنعل.

ثمة أمر آخر يمكن الاستفادة منه في استكشاف ما يمكن أن تزفه إلينا «طاولة الكبار»، أو ما تنعاه علينا: فازت فرنسا في الحرب، وانتصر حلفاؤها من اللبنانيين معها. معروف أن زمن الحماية قبل نشوء المتصرفية وإبانها، كان قد رسم خريطة التحالفات أو، بمعنى أدق، خريطة التبعية. من نتائج الحرب أن خسر المسلمون السنة والشيعة، وفاز المسيحيون الذين كانوا ينوءون ويتذمرون من العزلة التي فرضت عليهم في نظـــام متصـــرفية جـــبل لبــنان. لا قوام لحــياة في جبــل بــلا بحــر ولا ســهول ولا جنــوب.

لقد تم تكبير لبنان بعد الحرب بإرادة مارونية، ورسمت خرائط لبنان الكبير بأقلام مسيحية، أمت فرنسا وأقنعت قادتها بوضع توقيعها عليها. المسيحيون حلفاء المنتصرين، كان لهم لبنانهم الذي رغبوا فيه. لبنان الكبير مخلوق مسيحي، لذلك شعر المسلمون السنة والشيعة بالغبن. فطرابلس قاومت الانسلاخ عن سوريا، وجبل عامل طالب بالالتحاق بالدولة العربية التي أنشئت في الشام.

قبلت «طاولة الكبار» خرائط المسيحيين، ورفضت التماسات فيصل.

V ـ نصر الله و «المستقبل»

يدعو «السيد» اللبنانيين ليكونوا فاعلين في ميدان المواجهة مع «داعش»، وفي صف من يفترضه فائزاً منذ الآن. من كلامه يفهم أن المحور الإيراني ـــ السوري ـــ الحوثي ـــ الحزب اللهي، هو المؤهل حتى الآن بالفوز. قد يكون ذلك سابقاً لأوانه.

المؤكد أن المنطقة العربية التي استقرت بعد «سايكس ـــ بيكو» و «وعد بلفور»، باتت في النزع الأخير. الحرائق المشتعلة في المنطقة، والمؤهلة لإحراقها بكاملها، تنبئ بأن خرائط جديدة وكيانات جديدة قد تنشأ، بعد أن تكون الحروب المتناسلة قد قضت على سلالة «سايكس ـــ بيكو».

من الصعب تصور المستقبل كما سيستقر. هذا ضرب من التنجيم، ولكن المنخرط في الصراع يبني على قاعدة أنه مستمر فيه بهدف الانتصار، وإن لم يتح له ذلك، فسيكون بهدف الاستمرار والتأهل للحظة التسوية، حيث تكون «طاولة الكبار» مؤهلة لضمه إليها.

الاحتراس مطلوب إذا تعذر الانتصار. وفي الظن أن الانتصار غير ممكن لطبيعة المتصارعين. فوجه الصراع المذهبي يقلل من إمكانيات انتصار مذهب على مذهب. قد يقوى مذهب على آخر، بالسياسة والمواقع، ولكنه لا يلغيه. يبقى له حضوره، وستكون له حصته. تماماً كما حصل في لبنان. حيث إن لبنان المسيحي لم يحتكر كل شيء، بل قام بتأسيس مذهب المحاصصة المرعي الإجراء، والمتنامي دائماً، والذي يرغب في تقليده كثير من الكيانات مستقبلاً.

دعوة «السيد» للانخراط، تفهم على شكل مزدوج: المشاركة في قطف ثمار الانتصار، أو المشاركة في صناعة التسوية ورسم الخرائط.

حسناً…

تجربة لبنان الكبير مفيدة. فاز المسيحيون، فأخذوا كياناً لهم الحصة الكبرى فيه، ضمانة لهم. وألحق بهم الشيعة والسنة، وظلت حصة الدروز تقاس بحجمهم وبزعاماتهم. فماذا عن الغد؟

المنخرط في الصراع ضد إسرائيل، هو لبنان الشيعي. المنخرط في الحروب في سوريا والعراق وقد يصل إلى اليمن، هو لبنان الشيعي. في مواجهة «الحلف السني» بأشكاله المختلفة، المعتدلة والمتطرفة والتكفيرية… السؤال هو: هل يستطيع لبنان الشيعي أن يأخذ اللبنانيين الآخرين معه. وان لم يذهبوا، فما ستكون حصتهم في المستقبل؟

المسيحيون الذين كانوا في حلف الفائزين في الحرب الكونية الأولى، لم يأخذوا معهم أحداً. استلحقوا أعياناً وعائلات… صنعوا لبنانهم بصيغتهم. ماذا سيفعل الفائزون من اللبنانيين الشيعة؟

هل هذه أسئلة محرجة؟

طبعاً. ولكنها أسئلة حقيقية، وليست من اختراع ذهني، بل من طبيعة الصراع وطبائع الاصطفاف ونتائج المعارك.

لعله من المفيد تقليد المقاومة الفرنسية إبان الاحتلال. ففيما كانت تقاتل النازية فوق أرضها، انشغلت برسم معالم فرنسا بعد التحرير. هل تستطيع القوى اللبنانية الراهنة، الالتقاء لرسم صورة لبنان، ليكون لها حظ الحفاظ عليها وتظهيرها، عندما تعقد «طاولة الكبار»؟

شيء من المستحيل هذا؟

طبعاً! لأن البقاء على لبنان كما هو، وسط الحرائق، مستحيل بالتأكيد. انتظروا أن يذوب الثلج قريباً، لنرى موسم الحرائق.