بمرور الوقت على حرب غزة وتواصلها بضراوة بلا اهداف سياسية قابلة للحياة حتى الآن على الاقل، تصبح جرعة التفاؤل بعدم انخراط الجنوب فيها منطقية وحقيقية. ما كان يُفترض ان يحدث منذ اليوم الاول، ليست ثمة حاجة اليه في ما بعد ما ان يقترب المتقاتلون من خط الاياب
المعلن في اطلالة الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الجمعة المقبل، الاولى منذ اندلاع حرب اسرائيل وغزة في 7 تشرين الاول، تأبين شهداء الحزب الذين سقطوا منذ اولهم في 9 تشرين الاول وبلغوا خمسين امس. غير المعلن لكنه المحسوب في ما سيتضمنه كلامه، تأكيده بضعة استنتاجات من الحرب الضارية لثلاثة اسابيع خلت. بدأت في القطاع وهددت بدقّ ابواب جنوب لبنان:
اولها، مخاطبة نصرالله شهداء الحزب كإحدى ابرز الرسائل ان لم تكن الرسالة الرئيسية، وهي ان حزب الله في صلب المواجهة والحرب مع اسرائيل، ويدعو جمهوره الى ان يكون بدوره جزءاً لا يتجزأ منها. هو الذي يملك قرار النطاق الذي يذهب به الى اقصاه وتوقيته. بعد سقوط شهدائه اضحى معنياً مباشراً بظهوره امام جمهوره المعني اولاً بأولئك وبملاقاة الحزب في خياراته وصوابها، وامام الرأي العام اللبناني المنقسم على نفسه مما يفترض ان يقوم – او لا يقوم به حزب الله – قلقاً على مصير الكيان برمته، وامام الخارج الذي لا يتوقف إما عن تنبيهه من قرار خاطىء لا تريده السلطات ولا المجتمع اللبناني، وإما من المجازفة في فتح جبهة جديدة، وإما بتخويفه من الكلفة المحتملة.
ليست قليلة الشأن او غير ذات معنى الطريقة التي وُجهت بها الدعوة الى الاستماع الى نصرالله الجمعة ولا مألوفة في حالات مشابهة: حُددت اربع مناطق هي الضاحية الجنوبية والنبطية ودير قانون النهر وبعلبك. بذلك يُستنفر المجتمع الشيعي برمته حيال ما سيدلي به الامين العام للحزب. لكن كذلك بازاء ما هو اهم من ذلك: الدفاع عن خيار المقاومة حيثما اختارت وكيفما اختارت.
لم يتردد الحزب في نعي شهدائه واحداً تلو آخر، يوماً بيوم، وأدار تشييعهم بمهابة لاضفاء معنى مختلفاً لم يُلحظ كذلك في حرب تموز 2006. لم يكتم ايضاً سقوطهم خشية تأثر مقاتليه ومجتمعه بخسائر ليست قليلة الاهمية في ثلاثة اسابيع فقط في حرب لا تُخاض ضد الحزب بالذات، بل يخوضها هو دفاعاً عن مقاومة اخرى ومحور عقائدي برمته. الاهم في مسارعته الى نعيهم تأكيده انه يدفع ثمن عدم فتح جبهة من المفترض ان الانتماء العقائدي والواجب الديني يدعوانه اليها على عجل بلا تردد.
ثانيها، انهيار الخيارات المتوالية لاسرائيل مذ انتقلت الى رد فعل وحشي مشهود في غزة رداً على هجوم 7 تشرين الاول. بعد اخفاق اول الاهداف وهو تهجير اهالي القطاع الى سيناء، يتأكد يوماً بعد آخر فشل الرهان التالي على حملة برّية واسعة النطاق عليه لاحتلاله وفرض طرد ابنائه منه. سقط الخيار الاول في الاسبوع الاول من الحرب الضارية المدمرة على مدن غزة. في الاسبوع المنصرم مذ بدأت الهجمات البرّية المجتزأة تحققت اسرائيل ايضاً من انها اضحت في الطريق المعاكسة للهجوم البرّي وستكون على وشك الانكفاء الى الوراء والانتقال من الاعمال العسكرية الى الاعمال الامنية.
وقف النار يثبّت القوى والاحجام والمعادلات
ثالثها، فشل الاعتقاد بأن في وسع الدولة العبرية ان تمضي مع حماس الى ما اخفقت فيه مع حزب الله في حرب تموز 2006، وهو خروجها من الحرب الضارية دونما تحقيقها الهدف الذي توخاه ذهابها اليها. بعدما فشلت عامذاك في القضاء على حزب الله توشك على الوصول الى نتيجة مطابقة هي تعذر تصفيتها حماس. لم يعد في المرحلة المقبلة، في اسرائيل وخارجها، سوى الحديث عن كلفة وقف النار وعرابيه ومباشرة مفاوضات تبادل الاسرى وشروطها وارقامها.
واقع الامر، لمَن اصغى في الايام الاولى من الحرب الى وجهة نظر حزب الله تجري مراجعة لما كان يحدث ومقدّراً ان يحدث، اطالة امد الحرب يفضي الى الوجهة المعاكسة لاسرائيل: التفاوض مع حماس لا المرور فوق جثتها.
رابعها، تأكيد المؤكد في موقف حزب الله وهو عدم السماح بخسارة «محور المقاومة» بما تعنيه الحرب الحالية مع اسرائيل على انها توطئة لما قد يليها. منذ اليوم الاول للحرب رام، وهو مغزى إشغاله الجبهة الشمالية لاسرائيل، انهاء حرب غزة بطريقة مطابقة لحرب تموز: وقف النار يثبّت القوى والاحجام والمعادلات. يكرّس بقاء حماس وان ضعيفة على نحو مماثل لما خبره حزب الله بالذات في حرب تموز 2006. خرج منها منهكاً قبل ان يعيد بناء قوته الذاتية ويمسي مذذاك جزءاً لا يتجزأ من معادلة النزاعات الاقليمية، دونما اقتصاره على ثنائية صراعه مع الدولة العبرية.
اما ما لن يقوله نصرالله لكنه يدخل في صلب ظهوره الاعلامي، فأمران اثنان على الاقل: الاول عدم علمه المسبق بتوقيت هجوم حماس على غلاف غزة رغم الاتفاق والتفاهم معها على رد فعل ما حيال ما تتعرض اليه غزة من حصار واستهداف اسرائيليين. في نهاية المطاف لم يكن ما حدث في 7 تشرين الاول «مؤامرة» اعدها محور الممانعة، وهو اكثر المعنيين بتسليح حماس وتدريبها ومدها بالخبرات وتنظيم عقلها، لخوض حرب تحرير شاملة للاراضي المحتلة. في لحظة اشتعال الحرب، كأي حرب، تهبط المفاجآت والحسابات غير المدروسة تماماً والاخطاء الصغيرة والمفارقات والمصادفات ونزق النشوة.
اما الثاني فالتدرج المدروس لحزب الله في المواجهة مع اسرائيل بدءاً بمزارع شبعا في القطاع الاوسط، ثم تمددها الى القطاعين الاوسط والغربي وصولاً الى إشعال جانبي الخط الازرق وتسهيل ما كان يحظره قبلاً وهو اطلاق فصائل فلسطينية صواريخ الى الاراضي المحتلة.