ذَكّرت كلمة السيد حسن نصرالله الأخيرة بكلمات سابقة له في حقبات انقسامية واستحقاقات خلافية، كان يتخللها تهديد ووعيد وتلويح بالسلاح، وقد وصفها البعض بالخطيرة واعتبر انها تؤشّر إلى توجّه جديد سيعتمده الحزب، فهل هذا التوصيف في محله؟
قيل الكثير عن زيارة وفد «حزب الله» إلى موسكو وتحديداً لناحية تركُّز النقاش حول الملف السوري الذي يشكل مساحة مشتركة بين الروس والإيرانيين، وانّ موسكو تعمل على إنضاج تسوية تلي الانتخابات السورية، وانّ أحد بنودها خروج الحزب من سوريا، لا سيما ان وظيفته العسكرية انتهت.
وبمعزل عن صحة هذا الكلام أو عدمه، إلا ان هناك من ربط بين توقيت إطلالة نصرالله التصعيدية، وبين زيارة وفد حزبه إلى موسكو، وان رسائله، باللجوء إلى خطوات ذاتية وعدم تخلّيه عن مسؤولياته في حال عجزت الدولة عن معالجة الأمور، موجهة إلى الروس وفحواها ان خروجه من سوريا يعني سقوط الاستقرار الأمني في لبنان مع ارتداداته على الساحة السورية، بمعنى انّ انسحابه غير وارد، وفي حال أصرّت موسكو على هذه الخطوة عليها ان تتحمّل تبعات انفلات الوضع في لبنان وعودة التعبئة السنية وتأثيرها على الداخل السوري.
وفي موازاة هذا الجو، هناك من وضع كلام نصرالله التصعيدي في إطار الضغط على الرئيس المكلف ليحسم أمره بتأليف الحكومة بعدما كان وقف على مسافة واحدة بينه وبين رئيس الجمهورية منذ لحظة تكليفه، فتخلى عن حياده لمصلحة انحيازه، لا سيما بعد ان وجد انّ مبادرته بتخَلّي العهد عن الثلث المعطل وتخلّي الحريري عن تمسكه بحكومة من 18 وزيراً سقطت، وانّ ضغوط الدولار والشارع لم تفعل فعلها لدفعه إلى التأليف، وبالتالي قرر الانتقال من الضغوط غير المباشرة إلى الضغوط المباشرة من خلال ثلاث رسائل حكومية ودستورية وأمنية لعلّها تدفعه إلى الاتفاق سريعاً مع رئيس الجمهورية على الحكومة العتيدة:
الرسالة الأولى حكومية، ومحورها التخلي عن حكومة الاختصاصيين المقنعة التي وضع الرئيس المكلف مسودتها بموافقة الحزب، لمصلحة حكومة تكنو سياسية تعيد البلاد إلى حكومات ما قبل استقالة الحريري، وما قد يعني عودة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل إلى صفوفها، وهذا ما دفع الأخير إلى التهليل لموقف نصرالله الذي وضع الحريري أمام خيارين: إمّا الاستفادة من الفرصة الأخيرة المعطاة له بتشكيل الحكومة التي يعمل عليها منذ تكليفه، وإمّا تراجع الحزب عن هذا النوع من الحكومات وتمسكه بالحكومات السياسية مجدداً.
وفي الإطار الحكومي نفسه، جاءت دعوته إلى الرئيس حسان دياب لتفعيل حكومته المستقيلة وكأنه يقول للحريري: طَوينا صفحة التأليف وفتحنا صفحة التفعيل وعندما توافق على الحكومة السياسية يكون لكل حادث حديث، ومعلوم انّ التفعيل يعني طَي صفحة التأليف وإبقاء موقع رئاسة الحكومة شاغراً.
الرسالة الثانية من طبيعة دستورية بكلامه عن ضرورة إعادة النظر بالمدة الزمنية للتكليف، وقد تكون المرة الأولى التي يتطرّق فيها نصرالله إلى هذه المسألة التي تدخل ضمن اختصاص التيار العوني، متجاوزاً الحساسية السنية-الشيعية، ومتبنياً لتعديل مرفوض سنياً وكان محور نقاش في اتفاق الطائف وإصرار على إبقاء مدة التكليف مفتوحة من منطلق ان تحديدها يؤدي إلى إضعاف الرئيس المكلف ويمنح رئيس الجمهورية ورقة المماطلة المقصودة لاستبعاد من لا يريده عن طريق إنهاء المدة لإجراء الاستشارات مجدداً.
فالرئيس عون مثلاً، الذي كان منذ اللحظة الأولى ضد تكليف الحريري، كان قد استنفد الوقت المُتاح للتأليف من أجل استشارات جديدة، ولا يكفي إعادة الأكثرية تسميته، لأنّ إصرار رئيس الجمهورية يدفعها في نهاية المطاف إلى تكليف شخصية أخرى، الأمر الذي يجعل الرئيس المكلف في موقع ضعف لا قوة.
ولا شك انّ الحريري توقف ملياً عند هذا التطور الذي لم يعد يقتصر على الحالة العونية، بل تعدّاه إلى الحالة الشيعية، وربط النزاع في هذه المسألة يفتح الباب أمام نقاش دستوري يفضل تجنبه ليس فقط تلافيا لاحتقان مذهبي وطائفي، إنما لعدم منح «حزب الله» فتح باب التعديلات على اتفاق الطائف، هذه التعديلات التي تبدأ في مكان ولا أحد يستطيع ان يقدِّر كيف يمكن ان تنتهي.
الرسالة الثالثة أمنية، بكلامه عن الحرب الأهلية والخيارات التي سيضطر إلى اتخاذها في حال لم تتمكن الدولة من تحمُّل مسؤولياتها، وتلويحه بفتح الطرقات بالقوة، وان بيئته لن تكون متروكة، وبالتالي كل هذه الإشارات التي تندرج في سياق استخدام السلاح والقوة والجهوزية والخيارات البديلة، الهَدف منها القول للرئيس المكلف انه في حال لم تتشكل الحكومة فإنّ البلاد مقبلة على تطورات أمنية وعسكرية، وهو يدرك حساسية الحريري على هذا الجانب ومعه رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط الذي سارعَ إلى تلبية دعوة عون بعد خطاب نصرالله مباشرة، رافعاً عنوان التسوية بغض النظر عن كل التفاصيل المتعلقة بشكل الحكومة وحجمها، واللافت انّ جنبلاط الذي كان قد تجاوب مع مبادرة نصرالله في خطابه السابق بإسقاطه الفيتو على توزير درزي ثانٍ، تحرّك سريعاً على وقع خطابه الأخير داعيا إلى التسوية لمواجهة الانهيار المتمادي، وموقف رئيس «الاشتراكي» يزيد الضغط على الحريري الذي يجد نفسه محاصرا بمعادلة التسوية او الاعتذار.
وعلى أثر كلام أمين عام «حزب الله»، برزت قراءتان لكلامه: الأولى اعتبرت انه يمهِّد لشيء كبير له علاقة بانتقال طهران من الدفاع إلى الهجوم في اليمن وغيرها من أجل وضع الإدارة الأميركية أمام أمر واقع التسليم بالدور الإيراني في المنطقة، وانّ لبنان سينتقل في هذه المرحلة من التبريد إلى التسخين والتصعيد. وقراءة أخرى وضعته في سياق التهويل من أجل تسريع تأليف الحكومة، لأنّ الرئيس المكلف المصرّ على صيغته الحكومية حال ويحول دون ولادة الحكومة التي يريدها الحزب بأسرع ما يكون، تجنّباً لانفجار بيئته من الداخل من جهة، ورسالته الأخيرة هدفها رفع معنويات هذه البيئة بكلامه عن خيارات بديلة لحمايتها في ظل انهيارات بدأ يخشاها الحزب، وتلافياً لتدويل محتّم في حال انفجار الوضع الاجتماعي من جهة أخرى، وتستبعد هذه القراءة اي توجُّه متعمّد للتسخين ربطاً بالأجندة الإيرانية، لأنه يدرك ان استخدام سلاحه هذه المرة او قيامه بأي دور أمني أو عسكري سيسرِّع في الانهيار والتدويل في ظل بيئة حاضنة داخلية مع دعوة البطريرك إلى مؤتمر دولي ورغبة اللبنانيين بالخلاص، فضلاً عن انّ الناس الجائعة لم تعد تخشى لا السلاح ولا غيره.
وتعتبر القراءة الثانية ان الحريري الذي لم يتجاوب مع كل مبادرات حسن النية تجاهه ومساواته مع رئيس الجمهورية الذي انزعج من هذه المساواة، دفع الحزب إلى توجيه رسائله الثلاثة الحكومية والدستورية والأمنية من أجل دفعه إلى مسارعة الاتفاق مع رئيس الجمهورية قبل ان ينتقل إلى ترجمة هذه الرسائل على أرض الواقع.
ومع رسائل نصرالله الأخيرة والتلقُّف السريع لجنبلاط لها، لم يعد أمام الحريري سوى التسوية مع العهد او الاعتذار، وبما ان الاعتذار غير وارد لديه، فإنّ الولادة الحكومية أصبحت حتمية ونهائية.