Site icon IMLebanon

ماذا وراء «إنقلاب» حزب الله؟

 

أكد خطاب السيد حسن نصرالله الأخير أن حزب الله يتحكم بعِقد الأزمات التي يتخبط فيها لبنان، ويملك في الوقت نفسه مفاتيح الحلول لها، على قاعدة « من يوصل الحمار إلى رأس الشجرة قادر على إنزاله عنها»!

 

يتمتع الحزب إلى جانب التحكم بمسار الأوضاع السياسية في البلد، بهامش مناورة واسع، لا يتوفر لغيره من الأحزاب الأخرى، بسبب «فائض القوة» المتفرد به بسلاحه، وقدرته على توظيفه في الداخل، في ظل حالات الضعف والإرباك التي تضرب غيره من الأحزاب والقوى السياسية.

 

وبدا الأمين العام للحزب في خطابه يوم الخميس الماضي، وكأنه صاحب الكلمة الحاسمة في الوسط السياسي، وإليه يعود أمر البت والحكم في الخلافات المستعرة، دون التقيد بحدود التوازن بين القوى المتنافسة، بل مع الحرص على الوقوف إلى جانب الحليف المدلل، ولو كان قد إنحرف عن صواب السبيل الدستوري، الذي ينظم الحياة السياسية، ويبقى الدستور هو المرجع الأول والأخير.

 

الثنائي الشيعي رشّح الرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة على خلفية «الأقوى في طائفته»، كما هو حاصل في الرئاستين الأولى والثانية، وتماشياً مع مندرجات المبادرة الرئاسية الفرنسية، وتجاوباً مع رغبة الرئيس ماكرون بأن يكون الحريري رئيساً لـ«حكومة مهمة»، كما تم تسميتها في إجتماعات قصر الصنوبر، على أن تكون من الإختصاصيين، وليس من السياسيين.

 

وكالعادة، برزت في رحلة التأليف الكثير من المطالب المتناقضة، خاصة بين الرئيسين عون والحريري، الأمر الذي عطل الولادة الحكومية خمسة أشهر بالتمام والكمال، فيما كانت الأوضاع العامة تزداد تدهوراً في البلاد، ويتفاقم ضغوط الأزمات المالية والمعيشية على العباد.

 

طوال تلك الفترة بقي الحزب صامتاً في خضم الخلافات الرئاسية، ولكنه إستمر بتأييده للحريري رئيساً مكلفاً.

 

إلى أن أطل السيد نصرالله مساء الخميس الموعود، ليطلق جملة مواقف شكلت إنقلاباً سياسياً موصوفاً على كل المواقف السابقة، وفي مقدمتها المبادرة الفرنسية، وتفاصيلها التنفيذية، سواء بالنسبة لمواصفات حكومة الإختصاصيين، مفضلاً العودة إلى حكومة تكنوسياسية، أم بالنسبة لتكليف الحريري بالتأليف، شاملاً بخطابه المستجد قادة الأسلاك العسكرية والأمنية، وبعض أطراف الحراك الذين ينزلون إلى الشارع ويقطعون الطرقات.

 

أثار كلام نصرالله ردود فعل سلبية، وأدى إلى إحباط موجة التفاؤل التي ظهرت بعد إجتماع بعبدا بين الرئيسين عون والحريري، ونتج عنه إعادة الأمور إلى نقطة الصفر في ملف تشكيل الحكومة، بعدما هدد بتعديل دستوري لسحب التكليف من الحريري، في حال لم يُقدم على الإعتذار، ولا يريد تشكيل حكومة تكنوسياسية.

 

الواقع أن مضمون الخطاب أثار موجات قلق كبيرة عند اللبنانيين، الذين إستنتجوا بسهولة أن لا حكومة اليوم الإثنين، كما أوحى الرئيس الحريري من قصر بعبدا، وأن الأمور سائرة إلى مزيد من التهور والتدهور، بعدما قلب أمين حزب الله الطاولة رأساً على عقب، وإستمرت الصعوبات والعقد في عرقلة ولادة حكومة قادرة على إنقاذ البلد، وفاعلة في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.

 

ولكن … ماذا وراء المواقف المفاجئة للحزب؟

 

ثمة تداخل بين عوامل داخلية وخارجية، قضت بهذا الإنقلاب على المواقف السابقة، دون سابق تمهيد، وشكلت مفأجاة لدى أقرب الحلفاء للحزب.

 

داخلياً: بين التأخر في تشكيل الحكومة وإشتداد وطأة الحصار الغربي والعربي على لبنان، وتفاقم الأوضاع الإجتماعية والمعيشية نتيجة إنهيار العملة، وتفلّت أسعار الدولار والغلاء، إرتفعت أصوات تُحمّل الحزب مسؤولية ما آلت إليه أحوال البلد من فقر وإفلاس.

 

يُضاف إلى ذلك، تعرض مواقف الحزب لإنتقادات من أوساط الحليف العوني، وصلت إلى حد تلويح رئيس التيار الوطني جبران باسيل بإعادة النظر بورقة تفاهم كنيسة مار مخايل بين التيار والحزب، الأمر الذي من شأنه أن يهدد العلاقة مع الحليف المسيحي، بحجة عدم وقوف الحزب إلى جانب رئيس الجمهورية والتيار في الحملة التي يتعرضان لها من مختلف الأطراف السياسية.

 

ولكن ذروة التصعيد كانت بإعلان الإستعداد للخوض في تعديلات دستورية، تأييداً لموقف رئيس الجمهورية، تؤدي إلى سحب التكليف من الحريري، وحصر التكليف بفترة زمنية محددة، دون المسّ بالثغرات الدستورية الأخرى.

 

خارجياً: جاء موقف الرئيس الفرنسي ماكرون التصعيدي ضد عودة إيران للتخصيب بنسب عالية، ومجاراته الإصرار الأميركي على وقف التخصيب قبل بدء المباحثات النووية مع إيران، ليضفي أجواء من التوتر الديبلوماسي بين باريس وطهران، خاصة بعد الدعوة الفرنسية لإشراك المملكة العربية السعودية في المحادثات الدولية حول الملف النووي الإيراني، وهو الأمر الذي أثار عاصفة من الغضب في طهران ضد فرنسا ورئيسها. فكان لا بد من الإنقلاب على المبادرة الفرنسية ومندرجاتها في تأليف حكومة إختصاصيين، والتخلي عن رئيسها المدعوم من الأليزيه، والمطالبة من جديد بحكومة تكنوسياسية، وتوجيه التحذيرات الشديدة اللهجة لحاكم البنك المركزي، العائد حديثاً من باريس، لضبط إرتفاع الدولار والحد من إنهيار الليرة.

 

****

 

علمتنا التجارب المريرة والحروب العبثية في لبنان أن بلد التسويات يقوم على معادلات التوازن بين مكوناته الوطنية، وأن لا أحد يستطيع أن يفرض إرادته وخياراته على شركائه الآخرين في الوطن، ولا أحد يستطيع أن يلغي أحداً، وأن أي خلل في المعادلة الداخلية ينعكس خللاً أكبر على الأمن والإستقرار في البلد.

 

فهل يدرك أصحاب القرار مخاطر البقاء في دوامة الأزمات والإنهيارات دون حكومة قادرة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان؟