Site icon IMLebanon

كلام نصر الله الأخير.. كما لو أن الداخل اللبناني معدوم

 

يحاول الكلام الأخير للسيد حسن نصر الله في ذكرى عاشوراء تكريس معادلة سياسية ونفسية، لكنها نفسية اكثر مما هي سياسية، ومختصرها ان الداخل اللبناني صار مفروغاً منه تماماً، وليس فيه الا الحزب يفهم، في هذا الفصل من «لعبة الأمم». يضع الخطاب الأخير شؤون الداخل بين مزدوجين عند التطرق إلى صراعات المنطقة وحروبها أكثر من ذي قبل، كما لو كان هذا الداخل جبهة يقودها الحزب الطليعي ليس إلا، وكما لو أن اللبنانيين غير معنيين هم أيضاً بأن لا يكونوا وقوداً لحرب رسَم نصر الله مشهديتها كما لو كانت حرب آخر الزمان، بمحمولات ايديولوجية دينية كثيفة اكثر من المنسوب المعتاد في خطاباته، بالسنوات الأخيرة.

والداخل اللبناني هو الى حد كبير اليوم مطواع الى هذا الترتيب الذي يعلّقه بين مزدوجين. لم تكن هي الحال قبل سنوات معدودات. هنا أيضاً ثمة معطى نفسي. هناك ارهاق. الاستقطاب والمواجهة لسنوات طويلة، من قوى سلمية، مع حزب مدجج بشتى أنواع الأسلحة ولا يكلّ من حرب الى اخرى، هو سبب كافٍ لتراكم الارهاق. فبعد كل شيء، القوى السياسية والاهلية اللبنانية المعترضة على تغلبية «حزب الله»، غير مستعدة ولا راغبة ولا قادرة على المنازعة «الشمشونية» معه، اي انتهاج منطق «عليّ وعلى اعدائي»، لكن هذه القوى غير قادرة أيضا على ما هو «غير شمشوني»، اي الاتفاق السياسي البرنامجي على خط مفاصلة ومواجهة طويل الأمد مع هذه التغلبية، ومع هذه المصادرة للداخل اللبناني ثم هذا الاستبعاد له عن خارطة الحسابات الاقليمية في رؤى الحزب وخطابه. وكنتيجة لعدم تمكنها من الاتفاق على هكذا خط تراكمي جامع ومزمن، وجدت هذه القوى نفسها في حالة «ارهاق مضاعف»: ارهاق المفاضلة، العبثية الى حد كبير في الظروف الراهنة، بين خط «اصلاحي» يقول بتقليل الوطأة الحاصلة من داخل المؤسسات، وبخاصة من داخل السلطة التنفيذية، ونوبات «جذرية» تريد ان تقول عكس هذا، وسرعان ما يعود الواقع ليظهر المسافة بينه وبين مراميها او شعاراتها.

وهكذا، في وقت يظهر فيه الحزب الخميني على انه يمتلك تصوراً للعالم اليوم، ولقضايا المنطقة، للصراع العربي ـ الاسرائيلي، وسائر النزاعات الاخرى، ولـ «داعش»، ولاستفتاء كردستان، تعفي القوى الاخرى نفسها من اهمية تظهير نظرتها للمنطقة وللعالم، بملموسية وأفق سياسيين يتكامل فيهما الهم الداخلي مع النظرة للمسارات القريبة المجاورة والبعيدة. هذا يجعل الحزب الخميني يقدم نفسه على انه صاحب نظرة رؤيوية شاملة تجذب حلفاءه على يمينه او على يساره، في حين يعتصم اخصامه بحبل «النظرة المحلية» الى الامور. ما موقفهم من ازمة التعددية القومية والدينية في المنطقة؟ ما هي صيغهم الراهنة لمقاربة الصراع العربي ـ الاسرائيلي وأزمات ونزاعات المنطقة ككل؟ ليست هذه المسائل «اكسسوارات» وزوائد على الخطاب السياسي. هناك حزب متحكم يقول لك ان هذه نظرته للمنطقة والعالم، لا يمكنك فقط ان تكتفي بأن هذه النظرة التي يتبناها هي فوق طاقة لبنان. لا بد من اظهار النظرة الاخرى. كانت متوفرة الى حد ما في زمن وهج الثورة السورية، لكن مع الطابع التدميري الشامل للحرب السورية والتدخل الايراني والروسي فيها لم تعد الامور كذلك، ولم يعد الموقف المؤيد للثورة السورية وحده هو القادر على تشكيل نظرة استقلالية شاملة للمنطقة ولهذه المرحلة المضطربة والمحمومة من تاريخ العالم.

نظرة «حزب الله» كما ظهرت في الخطاب الاخير، هي نظرة للصراع العربي ـ الاسرائيلي لا مكان فيها لمعادلة الارض مقابل السلام، ولم يعد من مكان فيها للصراع المباشر مع اسرائيل منذ احد عشر عاماً في نفس الوقت. هي نظرة «توعدية»: بأنه يلزم اعداد العدة، اعداد ساحة الحرب الشاملة، بهيمنة ايران وحلفائها على المشرق العربي كله، استعداداً للمقارعة الشاملة مع اسرائيل في نهاية التاريخ المقتربة. من موقع هذه «التوعدية» يخاطب السيد نصر الله اليهود الاسرائيليين بنص مكتوب، ويقول ان تفاصيل المواجهة الوشيكة مكتوب عنها في كتبهم الدينية. وهنا، غادرنا تماماً اي بعد «دنيوي» للسياسة. من يطالب نصر الله برحيلهم عن ارض فلسطين كي لا يكونوا وقوداً في الحرب الشاملة القادمة، وليس لانهم أخذوا مكان شعب آخر، هم الذين يعتبر ان كتبهم الدينية تتضمن أسرار الوقائع الحالية والآتية.

في الوقت نفسه، يهدّف السيد ضد الذين يصفهم بالظلاميين، فلا تعود تعرف متى ترك المنطق الماورائي والأخروي لتفسير الصراع واعتنق قيم عصر التنوير، التي على اساسها يكون اتهام طرف بالظلامية. هذه ليست جديدة في الايديولوجيا الخمينية. الخمينيون وصفوا نظام الشاه بالرجعي، لكنهم لم يصفوا انفسهم كتقدميين. بل نبذوا الرجعية الشاهنشاهية، لكنهم اعتبروا التقدمية ايضاً تهمة، وانحرافاً ملوثاً بالقيم الغربية ينبغي محاربته. السيد ضد الظلاميين، لكن هل من موقع تنويري؟ … بل من موقع ماورائي، مستعجل لمعارك نهاية الأزمان والأحداث الرؤيوية المروي عنها في الكتب.

فماذا عن القوى المناوئة له او المتضررة منه في لبنان: هل تشعر انها معنية بالدفاع عن المنطلقات التنويرية الاساسية، او الاكتفاء بأن كل شيء نسبي، وظرفي، وليس من الضرورة مواجهة خطاب الحزب حول المنطقة والعالم، الا بخطاب شديد المحلية لا يتجاوز حدود لبنان؟