Site icon IMLebanon

رسائل نصرالله الأربع

 

 

إحدى النتائج الأكيدة لحرب 7 تشرين الأول انّ حدود لبنان مع إسرائيل، التي تنقّلَت هويتها منذ سبعينات القرن الماضي إلى اليوم من فلسطينية إلى سورية وصولاً إلى إيرانية، ستعود مجدداً إلى الشرعية اللبنانية.

لا يعود الفضل في حال استعاد لبنان السيادة على حدوده لحركة «حماس» التي لا تؤمِن شأنها شأن «حزب الله» بحدود ودول ودساتير، ولا بل على العكس تماماً إذ في حال تَلبنَنت الحدود يكون محور الممانعة الذي تشكل «حماس» جزءاً منه قد تلقى ضربة موجعة بخسارة ورقة أساسية من أوراقه.

 

فوضع الممانعة قبل 7 تشرين هو أفضل بكثير من وضعها بعد هذا التاريخ، حيث كانت إسرائيل تطبِّع مع «حماس» وتعادي السلطة الفلسطينية، وترسِّم مع «حزب الله» وتتعامل معه كأنه الدولة اللبنانية، ولكن تل أبيب لن توقِف الحرب، وفق ما تعلن وتقول، قبل ان تُخرج «حماس» من غزة، وتُخرج «حزب الله» من جنوب الليطاني، ومعلوم انّ كل الحركة الديبلوماسية في اتجاه إسرائيل ولبنان تتركّز أولاً على تجنُّب الانزلاق إلى الحرب الشاملة، وثانياً على إبعاد الحزب عن الحدود ضمن تفاهم ديبلوماسي تجنّباً لعملية عسكرية بسبب رفض سكان المستوطنات العودة إلى بلداتهم في حال العودة إلى وضع ما قبل 7 تشرين.

 

ولم تكن الممانعة في وارد الإقدام على خطوة تؤدي إلى إضعافها وتقليص دورها وتأثيرها، ولكن العقل التوسعي والأيديولوجي لهذا الفريق يدفعه إلى خطوات ترتدّ عليه سلباً، وعملية 7 تشرين بهذا المعنى جعلت كل مكونات هذا المحور في أزمة شديدة، بدءاً من «حماس»، مروراً بـ»حزب الله»، وصولاً إلى «الحشد الشعبي» والحوثيين، وانتهاء بإيران نفسها التي تلقّت ضربات موجعة مباشرة وغير مباشرة وأظهَرت انها عاجزة عن الدخول في حرب مباشرة ورافضة لتوسيع مجال الحرب.

 

ولن تتمكّن الممانعة من العودة إلى وضع ما قبل عملية «طوفان الأقصى»، وأكثر ما في إمكانها القيام به الحدّ من خسائرها، اي انّ الخسارة وقعت وحاصلة ولا خيار أمامها سوى محاولة التخفيف من وطأتها، وهذا ما يفسِّر الكلام عن صفقات يروِّج لها الحزب وإعلامه في محاولة لحفظ ماء وجهه، فيما لا صفقة ولا من يحزنون، والصفقات تُعقد غالباً بين المنتصرين ومع فريق يقدِّم العروض وليس مع فريق المعروض عليه ان يختار بين السيئ والأسوأ، أي بين ان يتراجع سلمياً او يتراجع عنفياً.

فلا وجود لصفقة ولا من يحزنون، لا بل عملية «طوفان الأقصى» أسقطت الصفقة التي كان قد أُبرِم القسم الأول منها وهو الترسيم البحري، وكانت الاستعدادات قد بدأت لإبرام القسم الآخر البري، وفي ظل تفهُّم او غَض نظر دولي لدور «حزب الله» السياسي على غرار غَض النظر عن دور الرئيس حافظ الأسد في لبنان، حيث ان الأولوية الدولية دائماً لمصالحها، وطالما ان الحزب يؤمِّن هذه المصالح تغضّ النظر عن تصنيفه والعداء معه.

 

ولكن ما حصل في 7 تشرين أسقطَ الصفقة ولم يعد في الإمكان العمل بها بعد ان تثبّت أحد أطراف هذه الصفقة وهو إسرائيل، أنّ الطرف الآخر، اي «حزب الله»، يعقد الصفقات على غرار «حماس» بهدف شراء الوقت وتَحيُّن الظرف المناسب للانقلاب عليها، كما أسقط «طوفان الأقصى» نظرية انّ شيعة إيران هم حرس الحدود لإسرائيل، لا بَل تَحوّلَ كل هَمّ تل أبيب الى إبعاد طهران وأذرعها عن حدودها.

 

ولم ينخرط الرئيس بشار الأسد في حرب غزة على غرار «حزب الله» و»الحشد الشعبي» والحوثي، ليس فقط تجنّباً لاستهدافه وهو الحلقة الأضعف، بل بهدف توجيه رسالة لواشنطن وتل أبيب بأنّ نظامه لم يبدِّل في التزاماته التي ورثها عن أبيه لجهة ضمان التهدئة في الجولان وفي ظل مصلحة إيرانية ببقاء النظام السوري، وهذا تحديداً ما كان يحاول الحزب استنساخه منذ حرب تموز 2006، وقد وصلت إسرائيل إلى اقتناع بأنه نسخة طبق الأصل عن النظام السوري، إلا انّ عملية «طوفان الأقصى» أسقطت كل شيء لمصلحة اقتناع مُستجد بأنّ الإسلام السياسي بشقّيه السني والشيعي لا يمكن الركون إليه ولا الاتفاق معه.

وقد راهنَ بنيامين نتنياهو على «حماس» وظَنّ انه رَسّخ معادلة رابح – رابح، اي رابح بإسقاط حلّ الدولتين وحصار السلطة الفلسطينية، ورابح بالتطبيع مع الحركة. لكنّ عملية «طوفان الأقصى» أظهرت انّ رهانه كان في غير محله وهو يتحمّل المسؤولية الأساسية لما حصل في 7 تشرين بسبب سياساته المشجعة لـ»حماس» والرافضة إعطاء الفلسطينيين حقهم في دولة.

 

فالصفقة مع «حماس» و»حزب الله» كانت قائمة فعلياً قبل 7 تشرين، وكل كلام عن صفقة وغيره لا أساس له من الصحة، وفي الوقت الذي لا تردّ فيه إسرائيل على كل العالم قبل إخراج «حماس» من غزة تعرض على «حزب الله» بواسطة الموفدين الديبلوماسيين الابتعاد عن الحدود بالحسنى لكي لا تضطر إلى إبعاده بالحرب.

 

وما تقدّم لا يعني انّ إسرائيل ستحقِّق أهدافها في غزة وجنوب لبنان، وهذا ما جعل ويجعل السيد حسن نصرالله يُبدي انفتاحه على التفاوض مع اشتراطه ربط هذا التفاوض بانتهاء حرب غزة، ما يعني انه يراهن على الميدان الذي قد يقدّم مفاجآت من قبيل عدم القضاء على «حماس» في غزة، كما انه لا يقفل باب التفاوض كخطوة انفتاحية على واشنطن من أجل ان تضغط على إسرائيل لاستبعاد خيار الحرب من منطلق انّ الحزب على استعداد للتفاوض، اي انه يعطي إشارات عن ليونة وانفتاح، ولكنه يربط انطلاق المباحثات بانتهاء الحرب والذي يعني بشكل واضح شراء الوقت أولاً وانتظار مشهد انتهاء الحرب ثانياً.

وقد وَجّه السيد نصرالله في خطابه الأخير 4 رسائل أساسية: الأولى انه على استعداد للتفاوض شرط انتهاء الحرب، حيث قال حرفياً «أي كلام أو تفاوض أو حوار لن يوصِل إلى أي نتيجة إلا بعد وقف العدوان على غزة». الثانية انه لا يمانع حلّ القضايا العالقة بين لبنان وإسرائيل عن طريق الديبلوماسية، والثالثة انّ مطالبه تنحصر في لبنان ولا يتحدّث عن إزالة إسرائيل ولا يربط مطالبه بمطالب «حماس»، والرابعة انّ جبهة غزة قدّمت للبنان فرصة تاريخية لتحرير بقية أرضه، بمعنى انه لولا المقاومة وتوازن الرعب لما استعاد لبنان اي شبر من أرضه، والرسالة الأخيرة ضرورية ليُخرج سلاحه من النقاش والتداول وانه غير مطروح تسليمه، إنما استمراريته مرتبطة بوجود إسرائيل وتشكيله قوة ردع ودفاع في مواجهتها.

 

ومن مصلحة «حزب الله» التغطية على ايّ تراجع سيُقدم عليه عسكرياً بالكلام عن انتصارات سياسية حَققها دوره العسكري، لأنه ليس في وارد تسليم سلاحه، وتراجعه التكتيكي الاضطراري سيواكب بالبحث عن مزارع شبعا جديدة كحجة للاحتفاظ بسلاحه، والحجة الجاهزة انّ سلاحه أدى إلى التحرير والترسيم ويؤدي إلى الدفاع، ما يعني انّ النزاع الذي بدأ مع خروج الجيش السوري في العام 2005 سيستمر بحلة جديدة بعد انتهاء حرب غزة مع ثلاثة فوارق أساسية:

ـ الفارق الأول: خسارة محور الممانعة الحدود اللبنانية مع إسرائيل، وهو يحتفظ بهذه الحدود منذ إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ولن يكون مهمّاً الكلام عن انّ عناصره هم أولاد البيئة والمنطقة والبلدات المتاخمة، لأن الأساس يكمن في الحدود التي ستكون تحت الفصل السابع، بمعنى وَقف اي أعمال عسكرية بالقوة، وهذه خسارة موصوفة لمحور الممانعة، وربح صافٍ للبنان الذي سقطت دولته مع سقوط الحدود مع إسرائيل.

ـ الفارق الثاني: خسارة محور الممانعة ورقة النزاع مع إسرائيل، لأن انتهاء الحرب يعني ان المقومات العسكرية لحركة «حماس» قد دمّرت، ويعني ان «حزب الله» تراجع عن الحدود، ومجرّد التراجع بمعزل عن المسافة 10 كلم أو أكثر أو أقل يعني انتفاء ورقة المقاومة، هذا فضلاً عن وجود نقاش حقيقي بأنّ «البروفا» التي قدمتها «حماس» في غزة لا يجب ان تتكرّر كونها بروفا تدميرية لا تؤدي الى اي نتيجة إيجابية.

ـ الفارق الثالث: خسارة «حزب الله» مبرِّر سلاحه، فلا هو قادر على إزالة إسرائيل من الوجود، ولا قادر على منعها من الاعتداء على لبنان، فلا توازن رعب ولا ردع ولا وحدة ساحات، والمصادفة انّ أحد أذرع الممانعة، «حماس»، أسقطَ سردية الممانعة وأدبياتها.

 

وقد شكلت عملية «طوفان الأقصى» بهذا المعنى ضربة استراتيجية بمفعول قنبلة نووية لمحور الممانعة الذي سيستغرق كثيراً من الوقت ليخرج من المأزق الاستراتيجي الذي هو فيه، ومجرّد ان يكون «حزب الله» خرج من حرب غزة أضعَف ممّا كان عليه قبلها، فيعني انّ تأثيره الداخلي سيضعف، وكل كلام آخر هو للاستهلاك، خصوصاً انّ قوة الحزب من قوته الإقليمية، وتراجع قوته الإقليمية سيؤدي حكماً إلى تراجعه في لبنان.