Site icon IMLebanon

خطاب نصرالله تمسُّك بإشارات القوّة في لهجة ناعمة!

 

لم يترك أركان السلطة مساراً لتدمير الدولة إلا إقترفوه..

لم يوفر شركاء الحكم طريقاً لإفقار الشعب إلا سلكوه،

لم يستح الحكام من إبداء كل ألوان الترف والثراء الفاحش ففاخروا به وأظهروه..

أشاع الحاكمون الظلم، فساد الإعتقال والتعذيب، والإرهاب الفكري وحصار الرأي والكلمة، ثم جاؤوا بالعدل فحاصروه وكبلوه..

توغل السلاح عميقاً في نسيج الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والإعلامية والوطنية، فأفسد وخرّب، فأيدوه ودافعوا عنه وقدّسوه..

ثم أتوا بالضرائب والمكوس على الشعب فأفقروه وحرموه وأذلوه..

خسر الشعب الحقوق كلها، في العيش والرفاه وفي الكرامة والتقدم على يد الطبقة الفاسدة.. فقلب كل الطاولات، وجرف كلّ السدود الطائفية والمذهبية، وحطم أصنام الزعامات وأسقط أوهام الرئاسات ومرّغ بالأرض كبرياء من ظنوا بأنهم أنصاف آلهة طغاة.. فأعلنها ثورة الثورات..

كشفت الثورة الحقائق التي كان يخفيها سلوك الطبقة السياسية وتسلطها وتحكمها بالصورة والمشهد، فأظهرت أن الشعب اللبناني موحد في قضاياه الكبرى ومتمسك بحقوقه وقادر على التحرك للحفاظ عليها، رغم كل الإعاقات التي يمارسها الطائفيون والمذهبيون..

كشفت الثورة عن مدن لبنان ثوبها الحضاري الفائق الجمال والرائع الحضور، فتقدمت طرابلس أيقونةً للثوار، وتألقت النبطية معقلاً للكرامة، وأضاءت صيدا منارة الوطن، وتلألأت جونية وجبيل والبترون لتشكل خط التواصل مع الشمال وعكار، وصرخت بيروت فكانت سيدة العواصم..

 

في الثورة لا يمكن فصل العاطفة عن السياسة ولا فصل الإنفعالات عن الطموحات، فاللحظات الوطنية ترفعها الأكفّ وترويها الدموع وتبنيها الإرادة ويوجهها الفكر والتخطيط والتطوير..

 

ثورة لبنان ليست مجرد إنتفاضة عابرة، وليست إحتجاجاتٍ على فقدان الخدمات وعلى الفشل في إدارة الشأن المعيشي فحسب، بل إنها ثورة لإستعادة الكرامة والدور والموقع للبنان الحضارة والرسالة، بعد أن أوصلته السلطة الحاكمة إلى الدرك الأسفل بين الدول.

 

إنها ثورة على الفاسدين الذين أكلوا جسد الدولة وإغتصبوه بعد أن أفلسوه ومزّقوه، بالتكافل والتضامن والتناوب فيما بينهم، كما أنها ثورة على إختطاف السيادة والسياسة الخارجية، وعلى إفقاد لبنان مكانته بين الأمم، حتى بات مدعاة لسخرية الأعداء ولإشفاق الأصدقاء والأشقاء..

 

إنها ثورة المناطق المحكومة بنواب الإقطاع المتجدّد، الغارقة في الحرمان المزمن، أو بالنواب الوكلاء الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً، بل هم خـُشـُبٌ مسنـّدة لم يقدموا لمناطقهم سوى الخذلان والتخلي والتواطؤ ضد مصالحها والإبتعاد عن الواجبات التشريعية والإنمائية والخدماتية..

 

تتعامل قوى السلطة مع ما يجري كأنه مجرد «صرخة» كما إعتبرها الرئيس ميشال عون، وفورة غضب، كما أسماها الرئيس سعد الحريري، أو «الحراك الشعبي»  كما أسماه أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله.. وكأنه إنتفاضة عابرة ليس لها ركائز، وليس لها عمقٌ أو إمتداد.. بينما الواقع يؤكد أنها ثورة ذات جذور وهوية وإنتماء، حتى لو لم يخرج بها المنظرون، ولو لم يخطط لها المخططون..

 

مسار الثورة يتجه في مساراتٍ متوازية متكاملة اهمها:

 

مواجهة الفساد

 

لأن مجمل الطبقة السياسية إنخرط في تقاسم الحصص وتبادل المنافع وهذا أدى إلى تدهور شديد الخطورة في مالية الدولة، توازى مع فحش في مظاهر الهدر للمال العام في الوزارات وسلوك الوزراء.

 

إسقاط الزعامات

 

شكلت الثورة عاصفة شعبية جرفت الزعامات وأحرجت الأحزاب المتجذرة في السلطة، ووضعتها جميعاً أمام تحدياتٍ وجودية، أياً تكن نتائجها ومآلاتها، فما ستتركه من آثار سيطال عمق الحياة السياسية في لبنان.

 

المواجهة مع السلطة

 

حاول رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري إستيعاب الموقف بخطاب أقل من العادة، وبعبارات باردة ولا تتضمن أي معنى سياسي. وخلاصة موقف السلطة يمكن إستخلاصه من موقف الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي أعلنه امس الجمعة، وحدّد فيه أطر رؤية الحزب وكيفية تعاطيه مع الثورة.

 

إستعمل نصرالله خطاباً ناعماً من حيث اللهجة، مع إحتفاظه بعلامة رفع الإصبع والتباهي بالقوة في أكثر من موضع من الكلمة.

 

حاول رمي الفتنة والتشكيك بين الجماهير وبين القيادات والشخصيات والهيئات الداعمية للحراك، من خلال تصوير هؤلاء على أنهم يستغلون المتظاهرين لأهدافهم الخاصة.

 

عاد إلى لغة التخوين عندما أكد أن السفارات تقف وراء تمويل التظاهرات، ليتدخل منها إلى إعتبار أن «وراء الأكمة ما وراءها» وأن لبنان مهدّد بحربٍ أهلية.

 

إعتمد نصرالله التشكيك في الذمم المالية لمن يتصدرون مشهد الحراك، وربطهم بالتمويل الخارجي وبالسفارات.

 

الأمر اللافت أيضاً في خطاب نصرالله أنه دعا المتظاهرين إلى التفاوض مع رئيس الجمهورية، وكأن رئيس الحكومة سعد الحريري غير موجود إطلاقاً، وأن نصرالله هو شخصياً من حدّد جهة التفاوض، وهذا يعني أمرين:

 

الأول: الإستهانة الكاملة والمعلنة بالحريري وبموقعه، لأنه يرأس السلطة التنفيذية المناط بها إتخاذ القرارات في الشأن السياسي والإقتصادي والإجتماعي.

 

الثاني: أن نصرالله يعتبر أن الحريري في وضعية تجميدٍ للصلاحيات وللعمل الحكومي، بإنتظار التطورات.

 

الأمر الثالث: تغليب العهد، وتحديداً رئيس الجمهورية في معادلة الحكم، وتهميش وإقصاء رئاسة الحكومة.

 

وكانت واضحة اشارة نصرالله الى لافتة كتبها ثوار طرابلس وجاء فيها: «يا حسين إشفع لأهلنا في النبطية»، ولا شكّ أن التعاطف الكبير الذي جرى من الفيحاء للنبطية وصور وبعلبك، ترك آثاره على الناس فيها، وأكد وحدة الوجع وحتمية التعاون في وجه هذه السلطة.

 

أفق المرحلة

 

تسعى السلطة إلى إستخدام كل وسائل الإختراق والإسقاط والإرهاب والضغط لإنهاء الثورة، كما تتمادى مواقع النفوذ في العهد في الضغط على الجيش، وتكاد توقع فيه تصدعات، بسبب إصرار الوزيرين جبران باسيل والياس بوصعب، على زجّ الجيش في المواجهة. مقابل إصرار من العماد جوزاف عون على الإلتزام بواجب الجيش في حماية المواطنين والحفاظ على الإنتظام العام ورفض إدخال المؤسسة العسكرية في أتون الصراع مع الشعب.

 

حاولت أحزاب السلطة إختراق الثورة بمجموعات وهمية، ودفعت البلطجية والزعران إلى الساحات، وإستخدمت البلديات وسخرت مواقع الدولة لإرهاب الموظفين.. ولكن كل هذه المحاولات كلها قد فشلت، وخطط الشياطين المقبلة ستفشل أيضاً وأيضاً.

 

إن تركيبة السلطة الحالية هي تركيبة شاذة وخلاف الطبيعة، وهي لا تعكس حقيقة الأوزان السياسية ولا حقيقة التوجهات الشعبية، نتيجة إخضاع الدولة والشعب لعملية إبتزاز طويلة منذ ما قبل إنتخاب الرئيس عون، وليس إنتهاء بالقانون الإنتخابي المسخ.. ولأن السلطة في هذه الوضعية الخاطئة، فإن أداءها في الحكم لا يمكن إلا أن يكون فاشلاً ومنتجاً لكل أنواع الأزمات السياسية والإقتصادية..

 

لهذا ولغيره من الأسباب التي تصبّ في إعلان لبنان دولة فاشلة في ظل حكم «حزب الله»، قام الشعب وأعلنها.. ثورة.