لم يكن الخطاب الأعلى نبرة من نوعه كما اعتبر كثيرون ذاك الذي أطل به الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله أخيرا، ولعله كان تصعيدا في الشكل قبل المضمون، أو لنقل خطاب ردع للإسرائيلي ولغيره قبل أن يكون خطاب إعلان فعليّ للتصعيد العسكري وصولا إلى الحرب الكبرى.
لكن ما أحاط بالخطاب من ظروف وتهويل إعلامي وتسريب، لا سيما في الإعلام الاسرائيلي، وسط خشية لدى كثير من اللبنانيين في موازاة خشية على إقتصاد مترنح، ودخول فصل الصيف الذي يناسب الإسرائيلي لشن الحروب، كلها عوامل جعلت من أوهام الحرب الكبرى حقيقة لدى البعض بينما هي لا تعدو كونها حربا نفسية في معركة أتعبت الأفرقاء كافة.
من ناحيته، رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ومعه متطرفو حكومته وشرائح مشابهة كثيرة في المجتمع الإسرائيلي، مصممون على المضي في حرب بلا أفق في غزة إستدعت كل التصعيد في الجنوب اللبناني.
الدقيق اليوم يتمثل في أن “قواعد الإشتباك” باتت من الماضي بعد أن حكمت ميزان القوة بين “حزب الله” وإسرائيل خاصة منذ العام 2006 حتى الثامن من تشرين الأول 2023.
قواعد الإشتباك تلك إتخذت سمة عسكرية وأمنية وكانت قبلها، منذ العام 1992، عند إغتيال سلف نصر الله، عباس الموسوي، قائمة على تحييد “المدنيين” على طرفي الحدود وكانت الحرب تقع كلما لجأت إسرائيل الى تخطي ذلك. حدث هذا في الأعوام 1993 و1996 و2006 وفي لحظات تبادل محدود للنار بين 2006 و2023.. وحتى خلال “المعارك بين الحروب” التي لجأت إليها حكومات إسرائيلية متعاقبة.
تجنب الحرب الكبرى
على أن المؤشرات تدل على أن اللاعبين في المنطقة والإقليم كما في العالم، يريدون تجنب حربا كبرى كون أي تصعيد للنار ليس مضمون محدودية الصراع جغرافيا وزمنيا وهو سيجري في منطقة شرقي المتوسط التي يُعوَّل عليها في سبيل النهوض.
كان “حزب الله” يريد تجنب التصعيد عندما أرسل مسيراته فوق البحر قبل نحو عامين، خلال التفاوض على الحدود البحرية (وهنا حديث آخر يتعلق بما حصّله لبنان والمكاسب التي حققتها الحكومة الإسرائيلية) ما دعّم موقف لبنان الرسمي وسط ميزان عسكري دقيق جنّب المنطقة الحرب. حتى خلص الأمر باتفاقية حدودية بحرية رسمية مسجلة في الأمم المتحدة ما يعني شرعية دولية.
اليوم ومع اختلاف ما يحصل على الأرض وفي الأجواء، فقد يكون الأمر مشابها لناحية النتائج مع أن المهمة أصعب حتى لو استثنينا مزارع شبعا وشمالي قرية الغجر. لكنه تصعيد قد يسبق الذهاب إلى اتفاق سياسي ما يعني أن حظوظ الحرب لا تزال بعيدة وإن كانت غير محسومة النفي.
فمهمة المبعوث الاميركي آموس هوكشتاين الذي يريد تهيئة الأرضية منذ اللحظة الأولى لما بعد إنتهاء الحرب والذي قرأ نصا مكتوبا أعده في واشنطن قبيل مجيئه، أفادت في عودة القواعد العسكرية السابقة، لكنها منيت بنكسة سريعة إسرائيلياً عبر رسائل نتنياهو المنتقدة للدعم الناقص من الإدارة الاميركية التي اعتبرت بدورها تصريحاته مهينة وهي التي تعلم تماما أنه بحضوره إلى الكونغرس في 24 الشهر المقبل، لن يضع خاتمة لعدوانه، بل أنه بذلك يفهمها بأنه يراهن على وصول الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
على أن هوكشتاين قوبل بنكسة أخرى تزامنت مع زيارته وتمثلت في طائرة “الهدهد”. ولذلك معاني أهمها تجنب الحرب مثلما أنها رسالة إلى الأميركيين عبر التلميح لما لدى المقاومة من قدرات كاشفة إحتمالات الضرب، علما أن الاسرائيليين يعلمون أن “حزب الله” قادر على استهداف كامل الأراضي المحتلة ومنها المنشآت الحساسة ومن ضمنها مفاعل ديمونا النووي..
لا أفق للحل
في قراءة للصورة في غزة ولبنان، وبما أن المشهدين مرتبطان، فلا أفق بحل قريب كون نتنياهو سيمضي في معركته غير آبه بمعارضة داخلية لم تدفع الشعب الإسرائيلي حتى اللحظة إلى حراك جدي يسقط إحدى أكثر الحكومات تطرفا منذ نشوء الكيان العام 1948. وبهذا المقدار من الغموض سيكون صعبا التنبؤ بمشهد ما بعد الحرب الذي سيكون مغايرا فلسطينيا وإسرائيليا بما يعني أن ما بعد السابع من أكتوبر لن يكون كما قبله. ونبدو اليوم في مرحلة ما قبل الصفر تفاهمات، وحتى مع التوصل إلى هدنة فإن نتنياهو قد لا يتراجع عن إستهداف المقاومة والشعب الفلسطيني بما يشبه ما يجري في الضفة الغربية وربما أكثر. وهنا ستُطرح الأسئلة حول رد المقاومة في فلسطين وماهية موقف “حزب الله” وإذا كان سيعتبر الهدنة نهاية الحرب أم إستمرارا لها لكن في شكل مختلف.. ثم أسئلة أخرى حول ماهية التفاهمات الفلسطينية وكيفية إدارتها وهوية الضامنين والمُعمرين لغزة وغيرها من أسئلة لم يحن وقت مقاربتها وهو ما يعني أن الحل بعيد..
في كل الأحوال تتمثل المعركة في صياغة إرهاصات مشهد ما بعد الحرب في المنطقة ككل وليس في فلسطين ولبنان فقط. لذا تتوجب رؤية المشهد بكامله وسط مشروع للتهدئة وللتفاهمات في المنطقة وطبعا في فلسطين، تحضيرا لإطلاق عملية السلام من جديد بين الفلسطينيين والإسرائيليين ومعها ما تضغط من أجله الدولة العبرية والأميركيون لفرض تطبيع مع العرب سيتخذ زخما كبيرا في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض.