في خطابه، أول من أمس، دعا الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله «الشعب اللبناني» إلى إدراك «المخاطر القائمة» التي منحها، للمرة الأولى منذ السابع من أكتوبر، الوقت اللازم للشرح والتبسيط، قبل أن ينتقل من «الشعب اللبناني» إلى «ناس بعدهم مش مستوعبين المخاطر»، وبحسرة أكثر، «بعدهم غرقانين في التفاصيل اللبنانية والزواريب والحساسيات الطائفية والحزبية»، مع كثير من الأسف على هؤلاء الغرقى الذين «لا يدركون أنه يعاد رسم مصير المنطقة ومستقبلها بالكامل». وهو، في هذه الجزئية الأساسية، لم يسمّ هؤلاء «الناس»، لكنه بالطبع لا يقصد النائب السابق وليد جنبلاط أو النائب فيصل كرامي أو كتلة الاعتدال الوطني، وإنّما المرجعيات السياسية والروحية المسيحية.وفي السياق، عاد الأمين العام مجدداً إلى هؤلاء من دون تسميتهم، ليطالبهم بالتفكير في ما يمكن أن يحصل على صعيدَي اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين إذا انتصرت إسرائيل. غير أن المعنيين بهذه الومضات السياسية الداخلية الأساسية وضعوا الاستراتيجيا والسياسة و«المخاطر الحقيقية» و«مصير المنطقة ومستقبلها» جانباً، ليمضوا قدماً في الغرق حتى قاع الزاروب.
علمياً ومنطقياً، ثمّة معادلات واضحة:
– إذا كنت مواطناً صادقاً مع نفسه في معاداة الفلسطينيين بحجة ما «ارتكبته» حركة فتح في لبنان قبل عقود، فلا بد أن تلوم إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا لتهجيرها الفلسطينيين من أرضهم إلى لبنان، وشاكراً للدولة السورية تدخلها ضد فتح في حينه، ومعادياً لحركة فتح بالتحديد، وممتنّاً لجهود حماس لمنع إنهاء القضية الفلسطينية ومعها حق العودة.
– إذا كنت إنساناً من دون أيّ إضافات، فإنك لا شك ستتضامن مع ضحايا الإبادة الجماعية للبشر والحجر والحيوانات والمدارس والمستشفيات في غزة والضفة وجنوب لبنان، وستحترم دماء الأطفال والصحافيين والنساء والرجال الذين يستشهدون، فتلتزم الصمت أقلّه.
– إذا كنت سجيناً سياسياً سابقاً أو ناشطاً سياسياً أو مجرد شخص يعرف قيمة كرامته، فإنك ستقدر من دون شك معنى وقيمة أن يثور شعب ضد من يحتل أرضه ويحاصر مدنه ويتحكم بكل صغيرة وكبيرة في حياته.
– إذا كنت زعيماً سياسياً فإنك ستدرك أهمية الاتزان والهدوء في ظل ما تمرّ به المنطقة من متغيرات، ولا سيما إذا كانت الأرضية التي تقف عليها تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية وإدارية وديموغرافية مرعبة.
– إذا كنت مواطناً في دولة، فستتجاهل كل ما لديك من ملاحظات وحساسية طائفية أو سياسية لتسارع إلى الوقوف بوضوح مع وطنك حين تهدده دولة أخرى أو تعتدي عليه أو تقصف عاصمته، تماماً كما يفعل كل المواطنين في كل دول العالم.
أما إذا كنت مجرد منافق، فستدّعي أنك ضد الفلسطينيين بحجة ما «ارتكبته» حركة فتح، لكنك ستقيم أفضل العلاقات السياسية والاجتماعية مع فتح نفسها، فتدعو ممثليها لإلقاء محاضرات في بيت الكتائب المركزي في الصيفي مثلاً أو في مهرجان ذكرى «شهداء القوات»، وستؤيد الغرب الذي خطط ودعم وغطى تهجير الصهاينة للفلسطينيين نحو لبنان وتهلّل له وتطبّل لثقافته، وستبرّر لإسرائيل ليل نهار، وستتبنى النظرية القائلة إن الاستقرار أهم من الكرامة والحرية والسيادة والاستقلال في السجن الإسرائيلي الكبير، فتلوم الفلسطينيين على انتفاضتهم، وستفرح إذا ضرب العدو وطنك، ولن تفكر في كل لحظة سوى باللحظة الآنية. فمن يفكر على نطاق ضيق جداً وصغير لا يمكنه تخيل الخطر الكبير، ويصرّ على «دس الرأس بالتراب» والبحث عن كيفية «تقطيع المرحلة»، حتى لو توجّه له الأمين العام للحزب بكل هدوء شارحاً وناصحاً بأن طبيعة العاصفة لا تسمح بالانحناء، لأنها لا تريد اقتلاع الرؤوس فقط وإنما الجذور أيضاً.
نظرة سريعة إلى الماضي القريب تبيّن أن انتصار 2006 حقق المطلب الرئيسي للمسيحيين بعد 2005 بتصحيح التمثيل السياسي
نظرة سريعة إلى الماضي القريب تبيّن أن انتصار الحزب عام 2006 سمح على المستوى المسيحي بتحقيق المطلب الرئيسي بعد عام 2005 بتصحيح التمثيل السياسي، سواء عبر تبنّي الثنائي الشيعي للقانون الانتخابي الذي اتفق عليه التيار الوطني الحر مع بكركي، أو رفضهما تشكيل الحكومات دون مشاركة وازنة للمكوّن المسيحي، فانتقل التمثيل الحزبي المسيحي في الحكومات من وزارة السياحة قبل حرب تموز إلى أكثر من عشر وزارات سيادية وأساسية بعدها، وإلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وإسناده في تعيين قائد الجيش ورئيس مجلس القضاء الأعلى وغيرهما من دون مشاورة أحد. أما انتصار إسرائيل فهو إنهاء للقضية الفلسطينية بكل مندرجاتها، بما في ذلك حق العودة الذي يقول الرئيس ميشال عون إن الأميركيين دعموا تحركات 17 تشرين بسبب تمسكه به ورفضه لصفقة القرن التي تنص على توطين الفلسطينيين في دول اللجوء. وفيما تقول القوات اللبنانية إنها قدمت آلاف الشهداء لمنع التوطين، إذا بها، حين يجدّ الجدّ، تقف وغيرها مع إنهاء القضية الفلسطينية وحق العودة. وإذا كان صمود المحور قد منع دمج (توطين) النازحين السوريين في لبنان كما يصرّ الاتحاد الأوروبي، فإن انهزام هذا المحور أمام إسرائيل اليوم كما تأمل مرجعيات سياسية وروحية مسيحية، يعني تراجع القدرة على مواجهة المشروع الغربي في ما يخصّ سوريا والسوريين في لبنان. ومن يفترض هنا أن إلحاق الهزيمة العسكرية بحماس أو بحزب الله من شأنها «إراحة» البلد لا يعرف شيئاً، لأن الحزب سيتشدد حينها في الداخل كما لا يتخيّل أحد ليحافظ على مكتسباته، فيما سيتعاظم الحصار الدولي والضغط ليأخذوا منه أكثر، وهو ما يقود إلى مسار متوحش جديد.
من يدقّق في خطاب الأمين العام الأخير، يلاحظ أن ثلثه تقريباً خصص لجمهور الحزب، وثلثاً للجمهور الإسرائيلي، وثلثاً للرأي العام العربي ولا سيما المصري والأردني، فيما مرّت النثرات الخاصة بالداخل اللبناني ضمن السياقات العامة كأنها خروج عن النص، بشكل ومضمون طغت عليهما الغيرة والأسف على هؤلاء، لمعرفته أن موقفهم قد لا يكون له أيّ تأثير في المعركة الحاصلة، لكنه مع ذلك موقف تاريخيّ في الجهة الخاطئة: مع السجّان ضد السجين، ومع الظالم ضد المظلوم، ومع آلة القتل الإسرائيلية – الغربية ضد شعوب هذه المنطقة، ومع صواريخ المسيّرات الجبانة ضد أميرة وحسن… وهو ما يترك ندوباً في الذاكرة الجماعية للطوائف والشعوب أعمق من جراح الحروب. إذ يمكن أن تتجاوز عدوّاً قتلك وهجّرك ودمّر منزلك، لكن لا يمكن أن تنسى من كان يفترض أن يقف إلى جانبك حين تعرّضت لهذا كله ولم يفعل. والمشكلة الأكبر هنا أنها lose – lose situation، ففي حال ربح على إسرائيل لن ينسى، وفي حال هُزم لن ينسى أيضاً.