«تاهت ولقيناها» كما يقول المصريون. فالانهيار اللبناني المتمادي سببه مؤامرة أميركية مُحكَمة كشف عنها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، في محاضرة علنية في جامعة «ستانفورد»، ثالث أهم جامعة في العالم، ودلَّنا إليه مشكوراً زعيم ميليشيا «حزب الله» حسن نصر الله في خطابه الأخير في ذكرى «القادة الشهداء».
يقول نصر الله إن أوباما شرح في محاضرته المشار إليها كيف تسيطر الإدارات الأميركية على الدول، ناقلاً عنه قوله: «نحتاج فقط إلى إفساد الرأي العام لبلد ما بالرسائل العشوائية وطرح أسئلة كافية وزرع ونشر ما يكفي من الشائعات ونظريات المؤامرات»، معتبراً أن هذا الأمر يشكل «تحدياً تشترك فيه أدوات سياسية وإعلامية واقتصادية، وفي مقدمها سعر الدولار الذي يتأثر به كل شيء».
شخَّص نصر الله أزمات لبنان بالاستناد إلى مقطع فيديو لا تتجاوز مدته 40 ثانية، ترجمه أحد المساعدين برداءة لافتة، ومن دون العودة إلى أصل المحاضرة الموجودة بالنص والفيديو على شبكة الإنترنت.
الثواني الأربعون تُظهر أوباما للوهلة الأولى وهو يتحدث بصيغة «تعليم» الآخرين كيفية توليد الشك عند الرأي العام بغية اختراق المجتمعات، عبر سيول الأكاذيب والمعلومات المضللة وتكثيفها وربطها بعدد لا يُحصى من نظريات المؤامرة. وعرض نصر الله الأقوال المنسوبة إلى أوباما على أنها كشف عن استراتيجية أميركية معتمَدة وطُبقت في لبنان!
بيد أن العودة إلى المحاضرة، والتي كان عنوانها «تحديات الديمقراطية في عالم المعلومات الرقمية»، ونظّمها مركز السياسة الإلكترونية في «ستانفورد» بالاشتراك مع مؤسسة أوباما، بتاريخ 21 أبريل (نيسان) 2022، تُظهر أن الرئيس الأسبق كان يشرح الآليات التي استخدمها أشخاص آخرون لبث عدم الثقة، كالرئيس الروسي فلاديمير بوتين -حسبه- أو ستيف بانون، كبير الاستراتيجيين السابقين في البيت الأبيض في عهد دونالد ترمب، وأن كلامه كان في معرض التحذير من مخاطر مثل هذه السلوكيات التواصلية لا في معرض التأييد لها.
طوال ساعة، هي مدة محاضرة أوباما في جامعة «ستانفورد»، التي اقتطع منها مقطع الأربعين ثانية، والذي بنى عليه نصر الله كامل رؤيته الفذّة للمؤامرة الأميركية، وأمام نخبة من قادة المستقبل في أميركا في القطاعين العام والخاص، أسهب أوباما في التحذير من تلاعب البعض بسيكولوجيا الجمهور وتأليب الرأي العام، ومخاطر ذلك على صحة العملية الديمقراطية وسمعة مؤسساتها، مجتهداً في طرح الحلول لمواجهة انتشار مثل هذه الحملات.
وقد أفردت وكالات أنباء عالمية مثل وكالة «AP»، حيزاً لمتابعة الفيديو المفبرك لأوباما بعد أشهر من انتشاره، وعرضت سياق محاضرته وما جاء على لسانه في تلك المناسبة.
على الضد تماماً مما قاله نصر الله، فإن أوباما دعا إلى تنظيم شركات التكنولوجيا لمعالجة انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت، منتقداً خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي التي يبدو أنها «توجهنا في الاتجاه الخاطئ» ويمكن أن تضر بالديمقراطية الأميركية. واقترح الرئيس الأميركي الأسبق أن يُجري الكونغرس إصلاحات عميقة للقوانين التي تحمي المنصات من تحمل المسؤولية عن منشورات المستخدمين، داعياً إلى ما يشبه الرقابة على محتوى المنصات، ووجوب إدارتها «بمستوى أعلى من الرعاية عندما يتعلق الأمر بالإعلان على مواقعهم».
وأوباما هو أكثر الرؤساء الأميركيين معرفةً بقدرات وتأثير مواقع التواصل، بعد أن نجحت حملة إعادة انتخابه عام 2012 في جعل «فيسبوك» قوة سياسية جبارة، كانت أحد أسباب تفوقه في التواصل مع جمهوره بدقة غير مسبوقة، وذلك من خلال بناء قاعدة بيانات ضخمة وموحدة تجمع لأول مرة معلومات عن ملايين الأميركيين، وتتيح له ولفريقه التواصل معهم فرداً فرداً. وقد بنى فريق إعادة انتخاب أوباما على التوظيف الناجح لموقع «فيسبوك» في حملة 2008، التي باتت تسمى في علوم الانتخابات الأميركية «انتخابات فيسبوك»، مستفيدين بعدها من التطوير التقني للمنصة وتحديث خوارزمياتها واتساع رقعة مستخدميها خلال السنوات الأربع بين الولايتين. وبعده نجح الرئيس الأسبق دونالد ترمب بتصعيد «تويتر» كقوة سياسية جديدة، حملته إلى البيت الأبيض، وباتت تغريداته عبرها هي مصنع السياسة والدبلوماسية والدفاع والاقتصاد.
وبسبب ارتباط الميديا بالسياسة في أميركا، كان لكل منصة إعلامية أثرها السياسي المباشر؛ فحمل الاستخدام المتميز للراديو فرانكلين روزفلت إلى البيت الأبيض، وفي زمن التلفزيون كان الحظ إلى جانب جون كينيدي، الذي أبدع في توفير ساعات من البث عن أحواله وأحوال بيته وأسرته وهواياته، ولم يكتفِ ببث خطاباته عبر الشاشة، في حين كان الاهتمام المفرط بالهندام والشكل والأداء، ما ميّز رونالد ريغان في زمن البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية أو التوزيع عبر أشرطة الفيديو…
كل ذلك مما لا يدخل في معارف حسن نصر الله أو اهتماماته حتى، ما يجعله عُرضة لأن تفضحه حماسة مساعد من هنا أو من هناك، عثر بين فيض المعلومات على «دليل» يُثبت استنتاجاته المأخوذة سلفاً!
سبق لنصر الله أن شرح للرأي العالم اللبناني والعربي استراتيجيات أميركا بناءً على رسالة متخيَّلة من وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر هي جواب افتراضي صاغه الصحافي سليم نصار رداً على رسالة فعلية وجهها إليه عميد الكتلة الوطنية ريمون إده، وبقيت بلا جواب. كان نصار يعمل يومها في مجلة «الحوادث» المرموقة، للكاتب المغدور سليم اللوزي، وبسبب تقطع السبل بين المناطق بفعل الحرب، وعثرات في تأمين جميع المواد المطلوبة لطباعة المجلة في يوم من أيام الاشتباكات، طلب من نصار أن يملأ عدة صفحات بفكرة ما، فخطر له أن يكتب جواباً متخيَّلاً من كيسنجر إلى إده وتم نشره من دون إشارة واضحة تفيد بأن النص من نسج الخيال!
لم تسعف معارف نصر الله المتواضعة، في التفريق بين ما هو متخيَّل وما يرغب في تصديقه، أو ما يصدقه سلفاً، لا في حالة كيسنجر ولا في حالة خطاب جامعة «ستانفورد».
إنها حادثة تعيد التذكير بنوعية «ولاة أمر» اللبنانيين والقابضين على زمام تقرير مصيرهم، حرباً وسلماً واقتصاداً. وحادثة تثبت ببساطة شديدة وخطيرة أن نصر الله لا يعرف العالم الذي يَعِدنا كل يوم بتغييره وقلب قواعده ومعادلاته وتوازناته…
ولعلها من علامات البؤس الشديد أن يتزامن خطاب نصر الله، الفارغ إلا من الوعيد، والممتلئ بكل ألوان الجهل، مع إعلان إسرائيل أنها بدأت بالفعل تصدير أول شحنة نفط خام في تاريخها من حقل كاريش، الذي رُسمت حدوده مع لبنان، في حين يغرق اللبنانيون بالمزيد من الفقر والجوع وانهيار العملة والكرامة!