تاريخياً، يصعب في الواقع التغطية على بشاعة جرائم “النصارى” في حق المسلمين إلى يومنا هذا، حتى مع نية التقريب والحث على التعايش “الإنساني” التي يرفع راياتها الجانبين. بناء عليه، فإن المكاشفة الحقيقية هي الحل الأمثل إذا كنا نتطلع إلى عالم أكثر عدلا، يتساوى أمامه “المجرمون” بعيدا من تحميل دياناتهم المسؤولية، وإلا فإن قائمة الدَّين عصية على الآخر الذي يرسم شعار المظلومية، فوق فوهات رُعب مدافعه وحمم قنابل طائراته.
انتهت اللعبة، وحش نيوزيلاندا الإرهابي قام بطعن جهود شيطنة الإسلام في خاصرتها، بعد أن «غصنا في هدومنا» جراء عقدين كان إسلامنا ودوله ضحيتها. ذلك «المسيحي» المتطرف «تارانت» أصبح اسما رديفاً لابن لادن والبغدادي، ويوم 15 آذار (مارس) الذي أعلن حادثة المسجدين البشعة، سيخلد إلى جانب 11 (أيلول) سبتمبر، ذكرى مفجعة ترفع الحجاب عن علاقة مقززة بين التطرف واللون الأحمر.
لقد حرفت تلك الطائرات التي ارتطمت ببرجي التجارة العالمي أنظار العالم نحو «الإسلام» بوصفه دين عنف، ومن المتعيّن اليوم أن صك براءته بوصفه ديناً بعيداً جداً من ممارسات بعض المتطفلين عليه، مثل غيره من الأديان، قد جاء في مشاهد برود أعصاب ذلك البغيض التي قام ببث جريمته مع سبق الإصرار والترصد، تجعل منها بشاعة دوافعها بتفاصيلها المغرقة في الدم، قنبلة موقوتة من الصعب التغاضي عن تفكيكها.
بالمناسبة، حدث كهذا من الطبيعي له ألا يمر من دون استعراض الأغراض السياسية على ركام جثث المغدورين، سيحاول الجميع تلافي ارتدادات ذلك العمل الوحشي المتغطرس، بمن فيهم «مطاريد» الإخوان في العالم، وأرجو أن يكون عمل الإرهابي «تارانت» بمثابة الصدمة الكهربائية لـ«العجوز» أوروبا تحديدا، تذكرها أن اللعب بالنار مع العالم الإسلامي بحضّه على مكافحة التطرف، ثم ابتزازه باحتضان أباطرته على أرضها، بدأ يحرقها هي، ليس فقط من خلال جرائم التعدي المتفرقة التي تستهدف المسلمين في أوروبا خاصة وفي عموم الغرب، إنما بتنامي المد العرقي والعنصري إثر اشتداد موجة استدعاء الإسلام المتكررة في «أدبيات» الانتخابات، عدواً تارةً، وحليفاً مهمته الوقوف أمامها في صد الهجمات الإرهابية تارةً أخرى! علينا القول بوضوح، إنه ما لم تقف الحكومات «الغربية» وقفة حازمة، تتحمل وفقها مسؤولية «قمع» حركات الدفع بالإنسانية في بلدانها -أيا ما كانت جنسياتهم ودياناتهم- نحو شريعة الغاب من جديد، تلك التي تترصد وحوشها الضارية غفلة الأبرياء، لتنقض عليها بـ«اسم الدين» أو حتى العنصرية، فإننا مقبلون على كارثة إنسانية، يخضع الجميع منهكا في نهايتها إلى حقيقة أن الإرهاب الذي لا دين له، إنما له أيد ظاهرة، وأن تركها تتحرك بهذا الشكل المريب في أوروبا «باسم الديموقراطية»، لا يختلف في جوهره عن ذبح الأبرياء باسم الإسلام أو المسيحية أو اليهودية.
في الواقع، لا يحتاج المسلمون إلى عضو مفوّه في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدافع عن قضاياهم، ولا إلى وزير خارجية يهزّ قارورة غاز «التطرف» ضدهم في طريقه إلى غزو نيوزيلندا، إنما يحتاجون إلى الاعتراف بأن «الإرهاب» المضاد باتجاههم في شكله الحالي لم يعد وارداً فحسب، بل هو نذير شؤم على العالم