Site icon IMLebanon

عن ذكرى نسيب لحود ولقمان سليم

 

قبل يومين حلّت الذكرى العاشرة لغياب نسيب لحود، السياسي اللبناني الذي تحوّل إلى رمز ونموذج وقدوة في أخلاقيات العمل السياسي، وسط هذا الكمّ من دينوصورات السياسة اللبنانية الذين تحوّل معظمهم إلى ما يشبه رجالات المافيا.

واليوم تحلّ الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الناشط والكاتب والباحث والناشر لقمان سليم، الذي تميّز بجرأة استثنائية في الرؤية الثاقبة والموقف، بقدر اتّصافه بالانفتاح وإعلاء لغة الحوار والمنطق والبحث العلمي، والذي لم يحتمل كلمته أولئك الذين يسود نهج القوة والإلغاء في عقولهم.

بات على اللبنانيين الباحثين عن كلمة سواء، والتوّاقين إلى من يرضي بحثهم عن الذين يعطون بلا مقابل في زمن اضمحلال أبسط قواعد الخدمة العامة والعمل السياسي المبدع وغير المساوم، أن يركنوا إلى التذكّر بأن رجالاً مرّوا على المشهد الذي يعيشه بين المأساة والأمل، أمثال نسيب لحود ولقمان سليم. لا يمضي أسبوع أو شهر إلا وتمرّ ذكرى عن هؤلاء الذين، إما ضحّوا بمغانم بعضها مشروع كما فعل نائب المتن الشمالي السابق، أو ضحّوا بأنفسهم كما انتهى الأمر مع لقمان سليم.

غاب نسيب لحود عن المسرح السياسيّ جرّاء المرض، لكنه ترك أثراً لا يمحى لرجل انخرط في الشأن العام، انطلاقاً من إرث عائلة سياسية ومن بيت سياسي كان له حضوره في المسرح السياسي التقليدي منذ أواسط القرن الماضي. وفي وقت كان لبنان يعاني من تغييب لغة العقل والمنطق في العمل السياسي. عمل مراحل الحرب الأهلية على التفتيش عن سبل لإنهائها بعيداً عن الأضواء. العمل بصمتٍ لا يلغي أن نسيب لحود كان أحد المشاركين في صوغ النسخة الأولية لاتفاق الطائف في الكواليس، مع الراحل سمير فرنجية وغسّان سلامة وفريق الرئيس حسين الحسيني وكوكبة من الناشطين والمفكرين، بالتنسيق مع البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير. وقف الحرب بالنسبة إليه كان الفرصة لتجديد الأمل ببلد منهك يحتاج بالإضافة إلى إعادة إعمار ما تهدّم، إلى إعادة إعمار بنيته السياسية. فهو كان من القلائل الذين دخلوا المسرح السياسي من خارج أقطاب الحرب ورموزها، الذين بانت شراهتهم على اقتسام خيرات الدولة التي ساهمت في وصول البلد إلى ما بلغه من كارثة نعيشها اليوم. فهو أبعد مصالحه وشركته للأعمال الهندسية عن لبنان طالما هو منخرط في العمل العام. كان نقيض السلطة، التي نهشت الدولة واستتبعتها للخارج، وابتعد عن التسويات التي بدأت في تشتيت مؤسساتها. وحين بات مرشحاً للرئاسة الأولى لم يلجأ إلى المراهنة على صلاته الخارجية، الواسعة، كما تقتضي القاعدة في الاستحقاق الرئاسي، فطرح برنامجه «رؤية للجمهورية». لم يقبل نهج المساومة على التزامه حركة 14 آذار الاستقلالية مقابل الانسياق وراء تلك المساومة.

لقمان سليم أدرك باكراً أن إلحاق لبنان بالمحور الإيراني هو الذي يجري التحضير له، بعد الانسحاب السوري في العام 2005. وفيما كان السواد الأعظم من الاستقلاليين يتصرفون على أن البلد تنفّس الصعداء بجلاء القوات السورية كانت نظرته الحادة والثاقبة الأكثر وضوحاً، بعد أيام على الانتخابات النيابية في ذلك العام. ولعل الذكرى مناسبة للتذكّر بأن لقمان كان من بين عدد محدود جداً من الصحافيين والكتّاب الذين نظمت السفارة الأميركية لقاء معهم لرئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي آنذاك جو بايدن، الرئيس الحالي، كي يسمع منهم ويسمعوا منه. سأل بايدن: هل أن «حزب الله» سيتصرف كقوة سياسية لبنانية بعد الانسحاب السوري وبعد الانتخابات النيابية، ويتكيّف مع انسحاب الدولة الحليفة له من البلد أم سيتبع الأجندة الإيرانية؟ في وقت أجاب أحد الحضور بأن «الحزب» سيضطرّ إلى لبننة وجوده كقوة سياسية كبيرة كانت تنشط تحت جناح النفوذ السوري، لا سيما بعد نجاحه في تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، ولأن عناصره لبنانيون في النهاية، كان تقييم لقمان مناقضاً تماماً. وهو أجاب آنذاك بما معناه أن «الحزب» مشروع إيراني صرف وسينفّذ سياسة طهران في المنطقة ويخضع لأوامرها ومشروعها وما حصل من تحالفات انتخابية معه سيستخدمه تغطية له كي يتابع انخراطه تحت المظلة الإيرانية…

ثبتت صحة استنتاج لقمان سليم منذ حينها. وهو لم يحد عن رأيه الذي زادت الأدلّة على صوابيته كلّ يوم. بل كانت الشواهد عليه تتعزّز. ولم يلن أو يساوم في التعبير عن قناعته. في حقبة من الزمن كان يعتقد أن جماعة «الحزب» يتصرفون بذكاء مع معارضيهم ومنهم هو، إذ يتركون لهم حرية الاجتماع وعقد الندوات والنشاطات الفكرية في مناطق سيطرتهم، إلى أن اكتشف قبل مدّة من اغتياله، أن مخزون غض النظر من قبلهم، لأسباب أمنية، عن معارضيهم في البيئة الشيعية قد نفد. إلا أن جرأته لم تخبُ، فكثرت التهديدات وصولاً إلى 4 شباط 2021.