IMLebanon

حتّي «على درب الجلجلة»… إن حكى؟!

 

 

يؤكد عارفو وزير الخارجية المستقيل ناصيف حتي انه كان من الصعب عليه أن يتآلف والتركيبة الحكومية الجديدة ببعض مكوناتها ومَن وَفّر لها الولادة في بحر من التناقضات. فبين ما تحتاجه البلاد بعد ثورة 17 تشرين وما يمكن ان تقوم به ضاعت آماله. وبعد اقل من 6 أشهر أدركَ انه من المستحيل ان يقوم بما تُمليه عليه اقتناعاته كديبلوماسي عتيق لا ينتظر درساً من هواتها. وعليه، ما الذي تَجنّب قوله في بيانه الرسمي؟

 

من الخطأ التوقّف عند العبارات المُنمّقة التي سردها الوزير حتي في كتاب الإستقالة والمعادلات الديبلوماسية والسياسية الراقية التي اشار اليها، وما عاناه الرجل في الأشهر الستة التي أمضاها في وزارة الخارجية. فمن دون شك فقد تردّد حتي في قبول المهمة عندما دُعي اليها، فهو لم يكن في وارد الخوض في التجربة الحكومية وهو القادم من عالمه المهني الخاص بعد تجربته الغنية في أقسى المهمات واصعب الظروف التي تجاوزها. فقد عاش ومارس مهماته في زمن الديبلوماسية الراقية إبّان سنوات الخدمة التي امضاها في باريس وروما رئيساً لبعثة الجامعة العربية بعد مهمات أخرى أمضاها مع نظرائه العرب في الجامعة العربية وأجهزتها السياسية والديبلوماسية في سنوات العمر الأكثر إنتاجاً.

 

كان على حتّي أن يتأقلم والجو الذي واكَب ولادة حكومية وصفت بأنها مستقلة وحيادية، قبل ان يكتشف زيف الوصفة التي أرادتها الحكومة بعدما فشل رئيسها عن قصد او غير قصد في تشكيلها من مجموعة من الوزراء يشبهونه كما قال يومها. كان ذلك قبل ان يرضخ لتركيبة سياسية أرادَته في المواجهة الصعبة في ظل فقدان القرار الاستراتيجي الذي يُعيد وصلَ ما انقطع بين لبنان الرسمي ومجموعة الدول العربية والغربية في مسعى لإنقاذ لبنان وتجنيبه ترددات ما يجري في محيطه. والأصعب من كل ذلك انه كان على حتي خوض أقسى المواجهات الديبلوماسية لترميم ما «خَرّبه» سَلفه في علاقات لبنان الخارجية وقيادتها في عكس التيارات العربية والغربية مُلتحقاً بمحور أبعَد لبنان عن الحلف الدولي الذي كان يشكّل أحد أعضائه منذ ان شكّل في ايلول العام 2014، ولو لم تلتزم الولايات المتحدة الأميركية ببرامج تسليح الجيش لكانت المصيبة اكبر بكثير على لبنان وشعبه.

 

وأمام هذه المهمة الصعبة امضى حتي أشهراً عدة من العزلة الديبلوماسية التي فرضتها السياسات المعتمدة عن قصد او غير قصد عندما تبدّل موقع لبنان في المنطقة قبل 3 سنوات، وقرر الالتحاق بالمحور المعاند لكل الدول العربية والمؤسسات المانحة ومجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان التي كانت توفّر له حماية لم ينعم بها من قبل على أساس التزامه مبدأ «النأي بالنفس»، وهو ما كرّسه التفاهم الذي أنهى مفاعيل الإستقالة التي فرضت على رئيس الحكومة سعد الحريري في تشرين الاول من العام 2017 في الرياض، ولم تفك عقدتها قبل التعهّد بالعودة الى نوع من «الحياد الإيجابي» الذي نَص عليه بيانه في تشرين الثاني من ذلك العام الذي يُبعد لبنان من اتون ما يجري على الساحتين السورية والعراقية الأقرب إليه وانعكاساتهما الخطيرة على تركيبته الطائفية المذهبية الهَشة.

 

ويعترف القريبون من حتي انّ معظم الجهود التي بذلها في الأشهر الأربعة الأولى لم تؤد الى إنهاء اي شكل من اشكال القطيعة الديبلوماسية والغربية، فسعى الى فتح ابواب العرب من خلال الجامعة العربية، فعاد الى حيث أمضى سنوات من عمره لإعادة وصل ما انقطع وترميم ما تمّ تخريبه مع أركانها بلا جدوى. ولم يشارك طوال تلك الفترة، ومن ضمنها تلك التي حكمتها جائحة «كورونا»، في ايّ لقاء عربي او دولي او توفير اي لقاء او اتصال ذي شأن وأهمية مع ايّ من نظرائه العرب والغربيين، وشارك في مؤتمرات عدة في عمان والمملكة العربية السعودية قبل ان يتوجّه الى باريس «مَربط خيله سابقاً» وروما من أجل فتح ثغرة في الحصار الديبلوماسي والإقتصادي الذي استجَرّه لبنان نتيجة سياسات الحكومة التي لم تراع مصالحه الخارجية ولم تتخذ اي قرار يعيد الوصل مع الجهات الدولية من حكومات ومؤسسات تعهّدت بمساعدة لبنان ومَنحه هبات او قروضاً لمواجهة أسوأ الكوارث التي حفلت بها الساحة اللبنانية الضعيفة. فإلى التداعيات الناجمة من النزوح السوري وتردداتها أو على مستوى ازمة كورونا لم يحصل لبنان سوى على مساعدات محصورة بالجائحتين فقط دون غيرها.

 

وعلى هذه الطريقة أمضى حتي فترة طويلة من اجل إحياء مشروع زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون التي تعهّد القيام بها الى لبنان وأرجأها اكثر من مرة، آملاً في تحقيق أي إنجاز يسهّل للحكومة وللعهد معاً خرقاً من اي نافذة دولية او اقليمية. فمن اجل ان تأتي الزيارة الرئاسية الفرنسية بما أراده ماكرون من اجل لبنان، كانت كل القرارات التي صدرت تباعاً في اكثر من مجال لتبعدها وتؤجّلها. واستمر الوضع متعثّراً الى أن وقعت «الجريمة الكبرى» التي رافقت زيارة صديقه في عالم الديبلوماسية لعقود خَلت وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان التمهيدية لبيروت، والتي كان يُراد منها ان تكون كزيارة «المفرزة السابقة» لزيارة ماكرون، فزاد الإشكال في الطين بلّة.

 

على هذه الخلفيات، نظرَ حتي الى ما جرى مع لودريان وربطه بالأخطاء التي ارتكبت سابقاً، وخصوصاً عندما تبنّى رئيس الحكومة مضمون قرار قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح بشأن منع السفيرة الأميركية من التصريح، وهو ما عمّمه في انتقاداته للسلك الدبلوماسي بكامله. وهو أمر استَجرّ نقمة واستهجاناً ديبلوماسياً واسعاً واكبَ رفضاً لبنانياً شاملاً عَبّر عنه مسؤولون لبنانيون ولو بنسبة اعلى، وهو ما وضع حتي في موقع لم يرده يوماً، وقد يستحيل عليه من بعده الاستمرار في تحمّل مسؤولياته الديبلوماسية.

 

وبناء على ما تقدّم باتت الأسباب الأخرى التي دفعت حتي الى الاستقالة هزيلة وربما جانبية. ومنها تلك التي كَبّلت مهماته في وزارة الخارجية نتيجة إصرار وزيرها السابق جبران باسيل على إدارتها عبر فريق مستشارين عن بُعد كتجربة شبيهة بآلية إدارة وزارة الطاقة في الحكومات السابقة، وهو ما جعلَ من حتي ضحية قرارات لا رأي له فيها، علماً انه مِمّن يرفضون التعليمات والنصائح من هواة الديبلوماسية.

 

لم يكن موقف حتي الأخير وتجاوبه مع الدعوة الى الحياد السبب الذي دفع الأزمة الى الامام فحسب، فكانت مواجهة محدودة مع فريق حكومي واسع يصطفّ فيه «حزب الله» الى جانب آخرين، وهي التي سرّعت قرار الإستقالة ووَقف السير على «درب الجلجلة»، التي يمكن ان يقال فيها الكثير….