نادرة هي المقابلات والاطلالات الاعلامية التي توثّق مواقف ناصيف حتّي، وزير خارجية لبنان الجديد، وإن خطّ بيديه الكثير من المقالات الأسبوعية والكتابات التي تعكس مقارباته وتصوراته للعديد من القضايا العربية السياسية والاقتصادية.
وهذا ما يزيد من سماكة طبقة الغموض التي تحيط بـ”بروفيل” من سيتسلّم اليوم حقيبة الديبلوماسية اللبنانية، في لحظة متغيّرات سياسية تمرّ بها المنطقة، هي أقرب إلى مخاض عسير، يبحث خلالها لبنان كيف يحمي رأسه بسبب أزمة اقتصادية مالية خطيرة تضرب بنيته الاجتماعية تجعله في أكثر لحظاته ضعفاً ووهناً.
لم يكن حتّي من الضيوف الدائمين على المنابر الاعلامية خصوصاً وأنه أمضى مسيرته المهنية خارج لبنان، مع العلم أنّه فور تقاعده من العمل الديبلوماسي وتفرغه للعمل الأكاديمي (مدير المعهد العالي للدراسات والعلوم السياسية والادارية في جامعة الروح القدس في الكسليك)، اتخذ من بيروت مقراً لاقامته، بعدما غادر باريس التي تعرّف فيها إلى زوجته.
ومع ذلك، لم يكن اختراقه جدار التسميات المستقلة، هادئاً، على عكس شخصيته، كما يقول عارفوه. فقد استهل ولايته الوزارية بتغريدة مثيرة للاستغراب أعلن خلالها وفاة “نظيره” السوري وليد المعلم. سرعان ما تبيّن أنّ حسابه، أسوة بحسابات كثر من رفاقه الجدد الوزراء والوزيرات، مخترق. ولكن يحلو لبعض الخبثاء، التلميح إلى أنّ اختيار المعلم لـ”نعيه” لم يكن بريئاً أبداً.
إلى جانب المقابلة الملتبسة مع قناة اسرائيلية، نجح محرك “غوغل” في التقاط حديث متلفز يعود إلى بدايات العام 2017، يختصر مقاربة وزير الخارجية الجديد لدور لبنان الديبلوماسي. يقول حتّي إنّ “مجمل خلافاتنا هي حول قضايا خارجية، ولذا أدعو إلى خروج لبنان من موقع الانتظار المتفرج إلى بلورة الحدّ الأدنى الممكن العملي من التوافقات الوطنية القادرة التي تسمح بطرح سياسة خارجية نشطة في المنطقة، بما تعنيه من تحرك في المنطقة لرأب الصدع والاسهام في بلورة تفاهمات الحدّ الأدنى مع قوى عربية أخرى وغير عربية اقليمية. فالدول الصغيرة بحاجة إلى ديبلوماسية نشطة تفاهمية لكي لا تنعكس الخارجية على سياساتها الداخلية”. وبتقديره، فإنّ تفاهم الحد الأدنى يعني أن لا يهاجم فريق مشارك في السلطة، طرفاً اقليمياً آخر.
وفي حال قرر حتّي ترجمة أفكاره على الورق، وعلى رؤيته الديبلوماسية، فهذا يعني أنّه الانقلاب على مرحلة النأي بالنفس، ولكن ليس على قاعدة الانغماس في الوحول الاقليمية، وإنما من باب المبادرة للبحث عن خطوط تماس بين المحاور المتحاربة في سبيل تطوير مشاريع تفاهمات اذا وجد لها مكان وفسحة أمل، لتجنيب لبنان تداعيات الحريق الخارجي.
قد تُسقط عباءة التكنوقراط على الكثير من الحقائب الوزارية، ولكن لقصر بسترس متطلبات يصعب فيها فصل السياسي عن التكنوقراط. كيف يمكن لوريث جبران باسيل أن يجرد حيثيته الوزارية من الأهواء السياسية؟ كيف يمكن له أن يكون مستقلاً في خياره وهو المكلف تمثيل حكومة مدعومة، إن لم نقل مطبوخة، في مطابخ قوى الثامن من آذار؟
ثمة اجماع حول توصيف جذور حتي السياسية. ولكن الالتباس يحضر حين يطرح السؤال عن توجهاته الحاضرة، لا سيما بعد 2005. يقول أكثر من شخص عرفه إنّ بدايات الديبلوماسي العتيق، كانت “قومية” ربطاً ببيئته الكورانية، وأخذت منحى “عروبياً” تجلت خلال مسيرته المهنية كمستشار للأمين العام للجامعة العربية ورئيساً لبعثة الجامعة في فرنسا والفاتيكان وايطاليا.
لكن الجانب الغربي في ثقافته (يحمل اجازة من الجامعة الأميركية قبل انتقاله للتخصص في الولايات المتحدة) وعمله لسنوات في أوروبا، كما يقول عارفوه، ترك أثره على محياه السياسي، ليطعّمها ببعض “الوسطية”، التي يتردد أنّها راحت تتبلور بعد 2005 بشيء من “الخصوصية اللبنانية”، التي دوّرت زوايا نشأته من دون التخلي عن فلسفته العروبية، ما يجعل منه ذا مسار متمايز عن كثر ممن تعاقبوا على كرسي قصر بسترس في الحقبة الأخيرة من تاريخ لبنان.
قيمته المضافة أنّه متمرّس في المهنة التي ترك دراسة الطب للتخصص بها، رغم أنّ والده طبيب، ويعرف ضوابط اللعبة السياسية وحدودها. الأكيد أنّ حتّي ليس عونياً أو باسيلياً. ويتردد أنّه شارك كضيف متحدث في أحد مؤتمرات “الطاقة الاغترابية” التي ينظمها “التيار الوطني الحر”، وكانت مناسبة لتعميق العلاقة بينه وبين جبران باسيل الذي أعطاه “بركته” ليكون “خليفته” على “كرسي” التواصل مع كل العالم.
أخيراً، لم يكن اسم ناصيف حتّي الوحيد الذي وضع على طاولة الترشيحات لوزارة الخارجية. حصل تبادل للأسماء بين رئيس الحكومة حسّان دياب ورئيس “التيار الوطني الحر”، إلى أن تفاهما على أنّ حتّي هو الشخص المناسب للمنصب الأكثر حساسية، بتزكية من باسيل وقبول من دياب.