IMLebanon

يغيب «بيبي» غير مأسوف عليه..

 

ليس في الإمكان تخيّل انفراج بين الفلسطينيين والإسرائيليين في المدى المنظور، على الرغم من النهاية السياسية لبنيامين نتانياهو الذي سيحاكم قريبا في قضايا فساد. انّها نهاية مشينة من النوع الذي يستحقّه رجل عمل كلّ ما يستطيع من اجل تكريس الاحتلال للضفة والحؤول دون قيام دولة فلسطينية مستقلّة «قابلة للحياة» كما كانت تطالب الإدارة الاميركية في مرحلة معيّنة.

 

في مؤتمر مدريد للسلام، الذي انعقد في تشرين الاوّل – أكتوبر 1991، كان نتانياهو الناطق الرسمي باسم الوفد الإسرائيلي. كان على رأس ذلك الوفد وقتذاك اسحق شامير رئيس الوزراء وزير الخارجية، الذي جاء غصبا من عنه الى مدريد. جُرّ شامير الى مؤتمر السلام جرّا. مارست الإدارة الاميركية عليه ضغوطا كبيرة جعلته يذهب الى مدريد على أسس متعارف عليها في مقدّمها القرار 242 الذي يقوم على مبدأ الأرض في مقابل السلام. رفض شامير ان يتصوّر يوما انّ إسرائيل يمكن ان تنسحب من الضفّة الغربية قيد انملة. لذلك كان يرفض الذهاب الى مدريد ولذلك كان بنيامين نتانياهو الذي يسمّيه الإسرائيليون «بيبي» احد تلامذته النجباء.

 

كان على رأس تلك الإدارة الاميركية، التي وضعت إسرائيل في حجمها الحقيقي، رجال استثنائيون هم الرئيس جورج بوش الاب، فيما كان جيمس بايكر وزيرا للخارجية والجنرال برنت سكوكروفت مستشارا لشؤون الامن الامن القومي. هؤلاء الرجل كانوا يعرفون الشرق الاوسط جيّدا. لذلك كان مؤتمر مدريد للسلام ولذلك امتنع الجيش الاميركي قبل ذلك، في شباط – فبراير 1991 عن ملاحقة الجيش العراقي الى بغداد بعد اضطراره الى الانسحاب من الكويت تحت الضغط العسكري للتحالف الدولي الذي كانت الولايات المتحدة على رأسه. كان أولئك الذين يشرفون على السياسة الاميركية يعرفون جيدا معنى سقوط بغداد نظرا الى ان المستفيد الاوّل من ذلك السقوط سيكون ايران التي سارعت الى استغلال الهزيمة العسكرية العراقية في الكويت وارسلت ميليشياتها المذهبية العراقية لتخرّب وتزرع الفوضى في جنوب العراق.

 

سئل شامير الذي جاء صاغرا الى مدريد عمّا سيفعله، فأجاب بما معناه انّه جاء من اجل التفاوض. كان شعاره التفاوض من اجل التفاوض «حتّى لو استمرّ ذلك عشر سنوات». أوضح في حينه ان إسرائيل «ستستغل عامل الوقت من اجل خلق امر واقع جديد على الأرض»، أي في الضفّة الغربية.

 

ما لم يستطع شامير عمله، عمله نتانياهو الذي استطاع ان يكون منفّذا لوصيّة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل بعدما بدأ نجمه يصعد في إسرائيل وصولا الى وصوله الى موقع رئيس الوزراء للمرّة الاولى في العام 1996 بعد اشهر قليلة من اغتيال اسحق رابين في تشرين الثاني – نوفمبر 1995 على يد متطرف إسرائيلي هو ييغال عمير. لا يزال ييغال عمير الذي ادّعى انّه قتل رابين لاسباب ايديولوجية ودينية الحاكم الفعلي لإسرائيل التي فقدت أي اهتمام بعملية السلام واتجهت الى متابعة سياسة الاستيطان في الضفّة الغربية من اجل «خلق واقع جديد على الأرض». هناك 28 سنة تفصل عن كلام شامير في مدريد. هل من لا يزال يتحدّث اليوم عن عملية سلام ومفاوضات في منطقة تغيّرت فيها الاولويات كلّيا، خصوصا بعدما ذهب بوش الابن الى بغداد في 2003 ممارسا سياسة معاكسة تماما لتلك التي اتبعها والده الذي عرف اين يتوقّف في 1991؟

 

يستأهل «بيبي» النهاية السياسية المخزية التي وصل اليها. لن يمثل امام محكمة إسرائيلية فحسب، بل سيخسر قريبا زعامة تكتل ليكود اليميني ايضا. لكنّ المؤسف ان الرجل استطاع وقف عملية السلام، وهو ما سعى اليه شامير في كلّ مرّة كان في موقع المسؤولية.

 

منذ اغتيال اسحق رابين، شهدت إسرائيل سلسلة من التقلبات. فقد اظهر شمعون بيريس، الذي لم يكن رجل سلام باي شكل بمقدار ما كان سياسيا خبيثا وفاشلا في الوقت ذاته، انّه لا يتمتع باي ميزات قيادية. سهل ذلك على نتانياهو الانتصار عليه في 1996، لكنّ بريق امل خافت لاح بعدما خلف ايهود باراك «بيبي»، وهو بريق ما لبث ان اختفى نهائيا بعد فشل قمّة كامب ديفيد بين باراك وياسر عرفات وبيل كلينتون في خريف السنة 2000 ليبدأ عصر ارييل شارون.

 

تعيش إسرائيل منذ فترة طويلة في عهدة اليمين المتطرّف. لا يزال نتنياهو في موقع رئيس الوزراء منذ سنوات طويلة، أي منذ خلف ايهود أولمرت قبل ما يزيد على عشر سنوات. اصبح أولمرت رئيسا للوزراء بالصدفة بعد مرض شارون الذي نفّذ الانسحاب من قطاع غزّة في آب – أغسطس 2005 واضعا الفلسطينيين قيادة وحركات معارضة مثل «حماس» امام خيارات صبت في مصلحة اليمين الإسرائيلي. سهلت خيارات القيادة الفلسطينية و»حماس» على إسرائيل ابتلاع الضفّة الغربية شيئا فشيئا عن طريق الاستيطان. هناك في الوقت الحاضر ما يزيد على 700 الف إسرائيلي يعيشون في الضفة الغربية المحتلّة منذ العام 1967. صارت كلّ الأحزاب تسعى الى استرضائهم!

 

ربح «بيبي» رهانه على عامل الوقت. يفرض ذلك طرح أسئلة كثيرة من نوع هل كان ياسر عرفات استطاع ان يغيّر التاريخ لو لم يتخذ ذلك الموقف المتصلّب في قمة كامب ديفيد مع باراك وكلينتون؟ هل كان سيتغيّر شيء لو قبل نقاط كلينتون او الاطار الذي طرحه في اثناء القمة وما بعد القمة وقبل مغادرة كلينتون للبيت الأبيض في أوائل السنة 2001 ليخلفه جورج بوش الابن؟

 

ثمة أسئلة اخرى يمكن طرحها من نوع ماذا لو عرف الفلسطينيون استغلال الانسحاب الإسرائيلي من غزّة ليقيموا في القطاع دولة صغيرة مسالمة بدل لجوء «حماس» الى فوضى السلاح والاستيلاء على غزّة في منتصف 2007 تمهيدا لتحولّها أداة إيرانية لا اكثر؟

 

سيغيب «بيبي»، غير المأسوف عليه، عن المسرح السياسي الإسرائيلي. ما يخيف ان ارثه باق. انّه ارث رجل لم يرد السلام يوما ولم يسع الى تسوية حقيقية تؤمن مستقبلا افضل للاستقرار في المنطقة كلّها. لم يستطع في يوم من الايّام التغلّب على طبيعته العدوانية وعلى عنصريته.

 

هل يمكن للاحتلال ان يستمر الى الابد؟ سيظل هذا السؤال يطرح نفسه في وقت لا يمكن تجاهل ان الديموقراطية الإسرائيلية صارت ديموقراطية مريضة منذ صار التنافس بين اليمين واليمين ولم يعد هناك مكان للغة العقل والمنطق. بعدما كانت إسرائيل أسيرة قاتل رابين، صارت الآن أسيرة افيغدور ليبرمان اليميني المتطرف الذي يستطيع عرقلة تشكيل حكومة على الرغم من اجراء انتخابات للكنيست مرتين هذه السنة. انّه مأزق داخلي إسرائيلي، لا يمكن تجاهله، مثلما لا يمكن تجاهل ان الفلسطينيين ليسوا في وضع يسمح لهم بالاستفادة منه!