لم يسبق أن خسر بنيامين نتنياهو، في ساعات قليلة، معركة إعلامية تشكّل محور سياسة التحريض الدولي والاسرائيلي والمحلي على المقاومة في لبنان. ولم يخطر في باله للحظة أن يحصل ما حصل. المشكلة ليست في كون رئيس وزراء العدو وقع ضحية ألاعيبه الاستعراضية التقليدية، بل تكمن في خطأ مهني ذي أبعاد استراتيجية ارتكبه أحد طرفين أو كلاهما: إما نتنياهو نفسه الذي كان يحتاج الى معلومة ولو كاذبة للتحريض على حزب الله في كلمته في الامم المتحدة، أو جهاز الاستخبارات الذي ارتكب خطأ مهنياً خطيراً، عندما قدم إلى رئيس حكومة بلاده ما كان يفترض أنه «معلومة محسومة»، حيال منشأة قال نتنياهو، باعتزاز، إنه تم ضبطها. وقد يكون من أسباب وقوع الجهاز في هذا الخطأ إلحاح القيادة السياسية على ضرورة توفير معلومة ذات مواصفات محددة، تخدم هدفاً مرسوماً في سياق سياسة التحريض.
في ساعات قليلة، تلقّت إسرائيل ضربة إعلامية لا تقل حجماً عن الضربة التي رافقت قصف البارجة «ساعر» في عرض البحر خلال حرب تموز 2006، عندما نطق الأمين العام لحزب الله جملته الشهيرة «انظروا اليها تحترق».
أُسقط في أيدي الجميع، خصوصاً وسائل الاعلام الحليفة لإسرائيل في لبنان وخارجه، والتي لم تجد فسحة زمنية للعب على ما قاله نتنياهو. وجّه حزب الله ضربة سياسية دعائية استخبارية مدوّية لكيان العدو، بجهازيه السياسي والاستخباري. وبتعبير أكثر مباشرة، وجّه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في بث مباشر على الهواء، صفعة مدوية لرئيس وزراء العدو ستترك صداها، وربما تداعياتها، داخل المؤسسة الاستخبارية الاسرائيلية، وستُسهم في تقويض مصداقية رأس الهرم في تل أبيب، وستؤدي الى تقاذف المسؤوليات عن الفشل في توقيت حساس داخلياً، وكذلك في سياق الصراع مع حزب الله. بالطبع، قد لا تخرج تداعيات الصفعة داخل المؤسسة الاستخبارية الى العلن، إلا أنها ستمثّل محطة لاستخلاص العبر ومحاولة الاجابة عن أسئلة محددة: أين أخطأت الاستخبارات وأين أخطأ نتنياهو، وكيف يمكن حبك المعلومة الكاذبة في المحطات اللاحقة؟
الخطوة الناجحة التي أقدم عليها حزب الله في تقويض خطة نتنياهو لاستغلال منبر الامم المتحدة، مثّلت ضربة ذات أبعاد استخبارية وسياسية، وللاستراتيجية الدعائية التي تنتهجها إسرائيل في مواجهة الحزب. وما يُفاقم من هذه الأبعاد أن أدوات تنفيذها لم تكن جنوداً في الجيش ولا وزيراً ولا مسؤولاً إدارياً، ولا خبيراً مرموقاً، بل الدولة بكيانها، من خلال رأس هرمها، ومن على أعلى منبر دولي، وفي قضية شديدة الحساسية.
ما قبل انفجار المرفأ في 4 آب، كانت إسرائيل تنتهج سياسة تحريض البيئة الحاضنة للمقاومة ومجمل الشعب اللبناني عليها وعلى سلاحها. ورأت اسرائيل في الحادثة فرصة مثالية يمكن أن تمثّل أرضية صلبة وقوة دفع للمخطط التحريضي ضد المقاومة نحو آفاق جديدة. فاعتمدت سياسة دعائية تستند الى استغلال مخاوف اللبنانيين من تكرار الكارثة، ولم يُخفِ نتنياهو هدفه من هذا التحريض، بل توجه بشكل مباشر، خلال كلمته أمام الامم المتحدة، الى سكان منطقة الجناح في الضاحية الجنوبية والى سائر اللبنانيين للانتفاض ضد حزب الله، لأنه «إذا انفجر هذا المخزن فستقع مأساة أخرى. وللمواطنين اللبنانيين… عليكم مطالبتهم بتفكيك هذه المخازن».
في المقابل، أقدم حزب الله على خطوة مركبة وفي اتجاهين، تهدف الى كشف كذب نتنياهو وقطع الطريق عليه وعلى استخباراته للاستفادة منها لاحقاً. فأعلن السيد نصر الله أن الاعلاميين مدعوون فوراً لزيارة المكان الذي حدده نتنياهو لقطع الطريق على أي مزاعم لاحقة بتفريغ المنشأة، وفي الموازاة حرص على قطع الطريق على الاستخبارات الاسرائيلية (تحديداً) بتأكيد أن هذه الخطوة «لا تلزمنا بمبدأ أنه كلما تحدث نتنياهو عن مكان ينبغي علينا دعوة الاعلاميين اليه». أهمية هذا القيد في هذه المحطة جوهري جداً، لكونه يهدف الى منع إسرائيل من تحويل كل ادّعاء عن مكان بأنه يحتوي على مخازن صواريخ الى فرصة لكشف المقاومة ولبنان أمنياً.
بكلمات قليلة، وخلال ساعات، خسر نتنياهو معركة إعلامية كبرى في سياق سياسة التحريض على المقاومة
على مستوى الرسائل:
حقق حزب الله إنجازاً نوعياً في معركة الوعي والرأي العام. وهي إحدى أهم ساحات ومحاور الصراع القائم في لبنان. حيث تحاول جهات داخلية وخارجية تشويه صورة المقاومة وسلاحها، وهو قوَّض مصداقية نتنياهو في سياق المعركة على الوعي، إذ كان يراهن على أن تمثّل هذه المحطة رصيداً نوعياً يبني عليه خطواته اللاحقة. وهي من أهم ما يستند اليه هذا النوع من المعارك. فبدلاً من المس بمصداقية المقاومة وتحريض الشعب اللبناني عليها، تقوّضت صورة نتنياهو ومصداقيته. ويمكن القول إن أي مزاعم لاحقة من هذا النوع، ستكون منذ الآن موضع تشكيك وإهمال لدى قطاعات واسعة من الرأي العام في لبنان وكيان العدو ايضاً.
وجّه حزب الله ضربة قاسية الى استخبارات اسرائيل التي يفترض أنها زوّدت نتنياهو بمعلومات خاطئة ومضللة. ويبدو أن الأخير وطاقمه الأمني والسياسي، كانوا يستندون الى فرضية أن حزب الله إما أنه لن يدعو الاعلاميين الى هذا المكان، كما هي سياسته في تحصين المقاومة أمنياً، أو أنه سيفعل ذلك في وقت لاحق. وعندها يمكن لنتنياهو وأجهزته، كما حصل سابقاً، زعم أن حزب الله أفرغ المكان من الصواريخ.
قدّم حزب الله دليلاً ملموساً للرأي العام على أن هدف إسرائيل ليس إلا التحريض على المقاومة، وهو ما نطق به نتنياهو خلال الكلمة (دعوة سكان الجناح إلى الانتفاض)، مستندة الى كمّ هائل من الأكاذيب وعمليات التضليل. وهو ما يفرض أن تبقى هذه المحطة محفورة في ذاكرة الرأي العام كشاهد ومؤشر على ما سيأتي لاحقاً من مزاعم وادعاءات.