كل الدول التي تنشغل بموضوع الحرب على غزة تتحرك من زاوية إنهاء الحرب والانتقال إلى مستتبعات ذلك، إلّا رئيس الوزراء الإسرائيلي فإنه من بداية الحرب يعمل بخلفية الخشية من «اليوم التالي». ليس صحيحاً أنه تجاوز هذه النقطة، وليس صحيحاً أن الخوف هو فقط من التحقيق بفساده، فقد أضيف إلى هذه المُعضلة عنده مُعضلةُ ماذا حقق في الحرب وأين الشروط التي رفعها وعلى رأسها إنهاء حماس. وربما يكون خوفه من «اليوم التالي» تضاعفَ بعد ضربة حزب الله ومقتل رئيس الوحدة ٨٢٠٠ وضباطه، وإمكانية التحقيق في الخرق الأمني الكبير هذا، ومسؤولية المستوى السياسي الإسرائيلي فيه.
في المجتمع الإسرائيلي جنوح إلى اعتبار القوة التدميرية المستخدمة ضد أعداء إسرائيل مبررة، لا بل مطلوبة، لكن عندما يرى هذا المجتمع أن التدمير لم يحقق الغاية المرجوّة منه، يتراجع في آرائه. والشاهد القريب هو حرب تموز عندما كانت استطلاعات الرأي تعطي إيهود أولمرت أرقاماً مرتفعة في التأييد الشعبي حين كانت الصواريخ تدمّر الضاحية وتقلب الأرض على رؤوس اللبنانيين في كثير من المناطق اللبنانية، لكن بعد مرور شهر كامل على مشهد الدمار، وحصول محاولة الدخول البري إلى الجنوب ومشاهدة المجتمع الإسرائيلي حرائق دبابات الميركاڤا في أيام الحرب الأخيرة، أعطت استطلاعات الرأي أرقاماً منخفضة جداً أدرك فيها أولمرت أن الجبهة الداخلية تفرّقت من حوله، وكان وقف إطلاق النار ثم تشكيل لجنة تحقيق في إخفاقات الحرب، وذهب أولمرت في داهية.
يرى اليوم نتنياهو أن داهية خاصة به تنتظره، هي داهيةُ الفساد وطلَبِه إلى التحقيق فيها من جهة، وداهية فقدان المعنى من تدمير ثلاثة أرباع غزة من دون إنهاء حماس، فضلاً عن داهية مقتل كبار ضباط الاستخبارات في عملية حزب الله.
والهرب إلى الأمام ليست شعاراً فارغاً عند نتنياهو كما يظن البعض، بل هي الواقع الذي لا مهرب منه ليطيل أمد الأزمة التي ستنقلب عليه، وبين رفح ومعبر فيلادلفيا يحاول أن يجد سبيلاً ليقول للإسرائيليين إنه سيمنع النفَس عن الفلسطينيين، لكن الموقف المصري الحازم حتى الآن، والضغط الأميركي والعالمي في هذه القضية سوف يجعلان مطلب نتنياهو مستحيلاً. وفي حين يرى العالَم أن قضية معبر فيلادلفيا هي اختراع نتنياهو لإطالة المعركة لا غير وتأخير مواجهته بالحقائق على أرض إسرائيل وبنيانها الشعبي والسياسي، يرى نتنياهو أنه إذا حقق ما يريد في الاحتفاظ بالمعبر سيكون المجتمع الإسرائيلي ممتنّاً وداعماً وربما إذا تشكّلت لجنة لدراسة مجريات الحرب ونتائجها سيجد «انتصاراً» يتكئ عليه في الدفاع عن نفسه.
في الأحوال العادية، أي لو لم تكن هناك حرب، وتمكّن حزب الله من ضرب ضربته القاصمة، لكان أول موقف لأي رئيس للوزراء في إسرائيل هو الاستقالة نتيجة الإخفاق في حماية ذلك الصرح الإستخباري المهم جداً في حياة الإسرائيليين. لكن خوف نتنياهو من اليوم التالي منعه من الاستقالة، لا بل حثّه على التعمية عنه إعلامياً بحيث أنه لولا بعض الصحف الغربية لم يكن حتى المجتمع الإسرائيلي مدركاً ماذا حصل في إسرائيل.
نتنياهو أساساً دخل الحرب بعدما نال موافقة الدول الغربية كافة، وبعدما جاءت الأساطيل لحماية أمن إسرائيل بحجة الدفاع عن النفس، لكن وصوله إلى حالة الإبادة بالفلسطينيين بدّل من الرأي العالمي وشاهدنا التظاهرات المضادة التي جابت العالم. وحين كنا نسأل عن جدوى التظاهرات في العالم إذا كانت لا تغيّر في السياسات داخل تلك الدول، جاءنا جواب من الرئيس الأميركي بايدن يقول قبل أسبوعين وكان حديث الحرب مع إيران ودول محور المقاومة قائماً، أنه (أي بايدن) يجب صعوبة كبيرة في تشكيل تحالف دولي لدعم إسرائيل في ذلك الوقيت. ولا ندري ما هي حكمة الإعلام العربي في عدم التركيز على هذه النقطة وهي دليل عن تبدّل جدّي، وعن انكشاف نتنياهو ومخططاته وأقلّها كان، توريط الولايات المتحدة في حرب مع إيران.
على ما نظن، لن يتوقف نتنياهو عن الهرب إلى الأمام واختلاق مشاكل إضافية لمسعى جميع الأرض إلى وقف إطلاق النار، إلّا إذا نال وعداً (ممّن؟) بأنه لن يساق إلى التحقيق لا بالفساد ولا بالإخفاق عن تنفيذ الشعارات التي بنى عليها هجومه الوحشي على الفلسطينيين!
ومن الآن إلى أن ينال نتنياهو ذلك الوعد (الداخلي) سيبقى عصيّاً على الموافقة على وقف إطلاق النار ولو انقلبت عليه الدنيا..
أو يجب أن يُهزَم بوضوح (كهزيمة أولمرت في دبابات الميركاڤا)، فالهزيمة البيّنة تكسر عنفوانه التوراتي أمام الناس والعالم، ومَن ما زال يناصره من شعبه سيتوقف عن ذلك.