Site icon IMLebanon

هل ما زال “الطائف” حيّاً؟

 

لقد كانت «وثيقة الوفاق الوطني» على قدر آمال الكثير من اللبنانيين في مرحلة إقرارها في تسعينات القرن الماضي. ويعتبر اللبنانيّون أنّ هذه الوثيقة قد نقلت الهيمنة الرئاسيّة من المجموعة الحضاريّة (الطائفة) المسيحيّة المارونيّة إلى المجموعة الحضاريّة السنّية عبر رئاسة الحكومة. فيما رشح عن التداولات التي جرت على هامش اللقاءات في الطائف، وبقيت غير مكتوبة، أنّه اصطلح على منح وزارة الماليّة إلى المجموعة الحضاريّة الشيعيّة. لكن الأهمّ من ذلك كلّه، هو الصيغة التي تمّ تثبيتها في اتّفاق «الطائف»، أي المناصفة.

 

أمّا اليوم، وبعدما نجحت المجموعة الحضاريّة الشيعيّة الموجودة في لبنان بالنموّ الديموغرافي بشكل فاق بقيّة المجموعات الحضاريّة، معطوفاً على ممارسات وزارة الخارجيّة التي تعاملت علناً خدمة للمشروع الايراني في لبنان، بحيث حجبت الجنسيّة اللبنانيّة عن كلّ الذين غادروا لبنان، على الأقل خلال الخمسين سنة التي مضت، بات العدد مقسوماً مثالثة؛ وهذا ما دفع الثنائي الشيعي إلى طرح مشروع نسف صيغة «الطائف» المبنيّة على قاعدة المناصفة، بهدف التوصّل إلى إقرار صيغة جديدة قوامها المثالثة. على أن تكون الأضاحي عمليّة تسييل دستوريّ للسلاح غير الشرعي الذي يملكه «حزب الله»، بهدف تحويل النظام السياسي برمّته، إلى نظام يتماشى مع العقيدة الأيديولوجيّة الصفويّة تحت مسمّى ولاية الفقيه، مع كلّ ما قد يترافق من تعديلات في مناصب الدولة الدستوريّة لصالح المجموعة الحضاريّة الشيعيّة، بهدف ترجمة غلبتها العدديّة على الفلسفة التعدّديّة التي قامت عليها فكرة الكيانيّة اللبنانيّة في وطن لبنان الرسالة.

 

لكن فات هؤلاء كلّهم أنّ صيغة «الطائف» هي صيغة سرمديّة لأنّها تترجم مشروع حوار الحضارات الذي يحاولون زيفاً الإدّعاء بأنّهم كسلطة إيران في لبنان خير مَن يمثّلونه. فيما سياساتهم كلّها تثبت عكس ذلك. وهم إن كانوا لا يعلمون، يترجمون عمليّاً نظريّة الفيلسوف اليهودي صمويل هنتنغتون في صراع الحضارات التي أطلقها في العام 1996، وبالتّالي مشروعهم ومشروع مَن يدّعون استعداءه، واحد أحد.

 

وما لا يمكن الاستمرار به هو ذلك المسار الذي يأخذ الحضارة بعكس التّاريخ، ولو كان الواقع الجغرافي الترسيمي الذي فرضته الجيوبوليتيك حتّم ذلك. من هنا، «الطائف» سيبقى حيّاً، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى، ليس لأنّ المملكة العربيّة السعوديّة هي التي رعت قيامه، بل لأنّه أتى ترجمة للواقعيّة اللبنانيّة. والخلاف اليوم ليس في تغيير هذه الصيغة بل في إيجاد النّظام السياسي الأمثل الذي يسمح بعيشها.

 

ولعلّ هذا ما يجب البحث فيه، وهو بات واقعاً معاشاً على أرض الواقع، وأكثر مَن يطبقّه اليوم هو المجموعة الحضاريّة الشيعيّة الممثّلة بسلطة إيران في لبنان تحت قيادة منظمة «حزب الله». وهذا ما نجحت المجموعة الحضاريّة المسيحيّة بتطبيقه عمليّاً يوم كانت في المنطقة الحرّة التي نجح النظام السوري بتدميرها، بالتواطؤ مع مَن نجح بإدخاله إليها تحت حجّة توحيد البندقيّة، وهو نفسه جعل من «الطائف» حقيقة تمرّد عليها، ثمّ عاد بعد ثلاثين سنة وأصبح رئيساً بحسب دستور الطائف نفسه؛ أي العماد ميشال عون، الرئيس السابق للجمهوريّة اللبنانيّة.

 

لن يبقى النظام السياسي كما هو اليوم في لبنان. أقلّ ما يجب هو تطبيق ما تمّ التوافق عليه في «وثيقة الوفاق الوطني». ولأنّ عيش التعدديّة الحضاريّة في الإطار اللامركزي الموسّع، كما نصّت عليه هذه الوثيقة، لم يعد يخدم الواقع الذي أوصلنا إليه الرئيس السابق وحليفه المسلّح، نحن حتماً بحاجة لنظام سياسيّ أقلّ ما يمكن أن تكون قاعدته هي الفدراليّة بالحدّ الأدنى؛ مع إدراكنا المسبق بأنّ منظمة «حزب الله» لن تكتفي إلا بما يسمح لها بعيش ثقافتها وعاداتها وتقاليدها كما طالعنا في السابق السيّد صفيّ الدين وأكثر من مسؤول فيها. وقد تصبح عندها الكونفدراليّة هي حلّ يطرح للإشكاليّة السياسيّة.

 

والأمثل من ذلك كلّه، هو التوصّل إلى نظام سياسي، يجمع هذه الأفكار السياسيّة كلّها، تحت صيغة الطائف التي لن تموت، وبشكل جديد، لأنّنا قد نعيش بطريقة مختلفة بعضنا مع بعض، لكنّنا حتماً سنعيش معاً في الـ 10452 كلم2 .