لا أعتقد أن السجالات التي تدور في لبنان هذه الأيام فيها أي قدر من الحكمة أو الوطنية. والوطنية هنا ليست توصيفاً لفئة دون أخرى، كما جرت العادة في الخطاب السياسي اللبناني على مدى عقود طويلة، وهي أن هناك فريقاً وطنيّاً وآخر غير وطني- مع الإصرار على عدم تفسير معنى كلمة «وطنيّ»..
الحكمة تقول أنّ طريق الاستقرار في سوريا طويل وطويل جداً، حتى لو انتهى النزاع المسلّح الآن. ستذهب تحالفات وشعارات وتستجدّ غيرها. وتتغيّر التحالفات والنزاعات، ناهيك عن القلق لدى الطوائف وإعادة الإعمار وعودة المهجّرين… كلّ هذه الأمور يعرفها كلّ اللبنانيّين بدون استثناء. وهنا نفترض أن أحد وجوه الوطنية والحكمة اللبنانية هو عدم الدخول في تجربة النزاعات المسلحة مرّة أخرى. ولا أعتقد أن الجميع في لبنان مدركٌ الآن خطورة العودة الى الخيارات الخاطئة مع توقّع نتائج مغايرة. وذلك هو الجنون بحدّ ذاته.
لبنان اليوم منشغل بما يعرف بمعركة القلمون، وتتقدّم أخبار هذه المعركة على كلّ الموضوعات. والوطنيّة في هذه الحال تقول أنّ لبنان في حالة حرب ونزاع مسلّح كبير. والوطنيّة تستدعي أوّلاً أن يتحوّل مجلس الوزراء الى حالة طوارىء. أليست البقاع والسلسلة الشرقية تشكّل ٤٣ بالمئة من مساحة لبنان؟ وهي الآن مهدّدة في استقرارها وأمنها، بالإضافة الى ما تحمله من أعباء ديمغرافية نتيجة النزوح السوري.. وهكذا تكون أبسط أشكال المصلحة الوطنيّة كما نفهمها ويفهمها العالم بأسره. الواقع غير ذلك، والاهتمام ليس على هذا المستوى. فهل حكومة المصلحة الوطنية لديها فهم آخر للمصلحة الوطنية؟ وهذا يستدعي أن تقول لنا أين المصلحة الوطنية في الانغماس في النزاع السوري؟
بوضوح، ينقسم لبنان الآن بين داخل وساحل، يفصل بينهما سلسلة جبال لبنان الغربية. فالداخل ملتهب وأصبحت فيه سلسلة جبال لبنان الشرقية جبهة ملتهبة يفصل بينها وبين جبل لبنان سهل البقاع من شماله الى جنوبه. ويتصرّف أهل الساحل بمنأى عن الداخل، وهم منشغلون بأحزمة السلامة للسائقين ومدخنة زوق مصبح. وجبل لبنان الذي كان قلب لبنان وجوهر لبنان أصبح مجرّد خطّ فاصل وشاهد على موت لبنان. وقد نكون الآن أقرب الى ما قبل المتصرفيّة وضياع لبنان الصغير بضياع حلمه بلبنان الكبير.
الكثير من اللبنانيين يتسامرون بالتحليلات والتوقّعات حول ما يدور في المنطقة ويدّعون الوطنيّة، ومن كل الاتجاهات. وهذه ميزة لبنانية أصيلة وهي تقديم ما هو خارجي، أيّاً كان، على الشأن الداخليّ. وذلك سلوك مكتسَب من المجتمعات السياحية أو ما يُعرف بمجتمع الخدمات، وهي تسهيل وصول السائح الى مبتغاه بطرق عديدة. وقد تتطوّرت هذه الميزة الى حدّ أنّنا عملنا في السياحة الحربية وحوّلنا لبنان الى ساحات نزاع للآخرين، وقبضنا ثمن ذلك، واستدعينا كل هواة الحرب والدمار ليمارسوا هواياتهم على أرض وطننا وبأجساد مواطنينا. فأين تكون الوطنيّة هنا عند الذين استقدموا هذا الطرف أم ذاك، طالما أنّهم جميعاً قتلوا أبناءنا ودمّروا مُدنَنا، ومع الأسف بأيدينا وبرغبتنا وليس رغماً عنّا؟ فهل يكون في هذه الحال تعريف الوطنيّة هو تدمير الوطن وقتل المواطنين؟
الحرية إشكالية أكثر تعقيداً في التعريف اللبناني. فهناك إجماع لبنانيّ على أنّ لبنان مجتمع حريات وصاحب تجربة ديموقراطية عريقة. وهذا موجود في كل الأدبيات. ويُفتَرَض أن يكون الفرد في لبنان حرّاً، وعلى ما يبدو فإنّ الجميع مستكين لهذه النتيجة. فهل نعتبر أنّ الطوائف وأمراءها وزبانيتها يحمون حرية الأفراد في طوائفهم؟ في حين أن الحرية بمعناها الحقيقي هي منظومة متكاملة وليست نزعة فردية، أي أنّ الفرد الحرّ هو عضو في انتظام مجتمع الحرّيات. إنما الحقيقة ليست كذلك.. والدليل أنّ الأحزاب اللبنانية هي طبق الأصل عن الواقع الطائفي، لأنّها أحزاب طائفية، وهي أيضاً لا تؤمن بالحرية الفردية كما هو الحال عند الطوائف، ولذلك الفرد المستقلّ يشكّل خطراً على الاجتماع الطائفي الذي هو في نفس الوقت الاجتماع الحزبي.
أن تكون وطنيّاً تخاف على كلّ أرض الوطن وكلّ المواطنين وتريد لهم الخير والاستقرار والعدالة والتقدّم والازدهار، فهذه الوطنيّة لا معنى لها في لبنان. وعليك أن تهاجر كالذين سبقوك الى بلاد الاغتراب. أمّا إذا كنت تريد البقاء في وطنك الحبيب لبنان فيجب أن تكون طائفيّاً وعدميّاً، ولا يعنيك من يأتي ومن يحتل ومن يُهيمن ومن يدمّر أو يسرق أو يتسلّط أو يحتقر… وعليك أن تجاهر برغبتك في قتل مواطنيك من الطائفة الأخرى أو الحزب الآخر، وأن تشعر أنّك من نسل عظيم لا يسمح أن يكون لك فيه شريك وضيع. فاللبنانيّة هويّة صغيرة على عظمة انتمائك للأمم والأديان والمذاهب التي تجعلك تفيض على هويّتك اللبنانية الحقيرة والمؤقتة. وقد أصبح لبنان والمشرق أشبه بتجمّع لشعوب الله المختارة، وإسرائيل مثلها الأعلى.
كنتُ دائماً أتساءل عن تعبير «هيدا حكي بلا معنى»، وكنت أسأل كيف يمكن أن يكون هناك تعبير ليس له معنى. ولكن بعد التعمّق في المعاني اللبنانية للوطنية والحرية والشخصية المستقلة والهوية، فهمتُ لأوّل مرّة كيف يكون التعبير بلا معنى. فالوطنية والحرية والهويّة في لبنان بلا معنى..