Site icon IMLebanon

العفّة الوطنية

“تبدأ بالتنازل عن قبّعتك، ثم عن معطفك،

ثم قميصك، ثم جلدك، وفي النهاية ذاتك”.

ديغول

يشبه ريمون إده في تاريخ لبنان المعاصر، صورة اللابطل في الرواية الحديثة. الرجل الذي يجد ربحه في الخسارة، وفوزه في الاستقالة من السباق المبتذَل. السياسي الذي ينتسب إلى الجماعة، لكنه يرفض مماشاة نزواتها وغريزة التسوية فيها.

لذلك، يبيّن في ذكرى غيابه الخامس عشر، ظاهرة فردية وليس مجرد سياسي فرد. الغياب يُعطي بعض الرجال أبعاداً لم تكن مرئيّة في حياتهم. وفي زحمة اليوميات وتسارُعها، لم تكن الغالبية تدرك أن ريمون إده مسيرة يتيمة، لا مجرد رجل خفيف الظلّ، صلب العود، صلب الضمير، صلب الترفّع، صلب النقاء الوطني.

تمرّ هذا الشهر ثمانية قرون على “الماغنا كارتا”. “الميثاق العظيم”، الذي أقرّه جون، ملك الإنكليز. وكم هو بسيط: الإنسان حرّ. وله حقوق الأحرار. والقرار له أيضاً، وليس للسلطان وحده، والقانون هو المرجع وهو الحَكَم وليس سيف الدولة، الذي قال فيه المتنبي، فيك الخصام وأنت الخصم والحَكم. إما خصم وإما حَكَم.

عمل ريمون إده لهذه المبادئ وكأنه في دولة كبرى. ورفض “واقع الأمر”، أو حقيقته! بلد ضعيف، قليل الموارد، كثير القضايا، سريع العطب، اضطراده من خارجه ومن داخله، ونظام حرّ في منطقة قبَضات. بالنسبة إليه، إما بلد سويّ ودولة قانون، وإما لا شيء. الهباء أفضل من القهر. والمنفى أعطف من الوطن.

كان في إمكانه أن ينضمّ إلى الرَكْب ويتبَع القافلة، بل يتصدّرها، لكنه أصرّ على أن يحمل سيف دون كيشوت ويمضي في بلاد لامانشا، محارباً جميع أنواع الطواحين: الموارنة، العسكر، الرقابة، الفلسطينيين المسلّحين، السوريين، الأميركيين، وطبعاً إسرائيل.

مع مَن تريد أن تتواطأ، إذن؟ إما حراً وإما امضِ العمر مع الطواحين. وقد فعل. في لبنان وفي منفاه، لم يساوم على شيء. لا كمواطن، ولا كنائب، ولا كوزير، ولا كمرشح رئاسة، ولا كمنفيّ في غرفة ودار من 50 متراً في باريس، حيث التقى، شاباً، المرأة الوحيدة التي أراد الزواج منها. لكن الأم السرسقية كانت حاسمة: ابني لا يتزوج ممثلة من الكوميدي فرانسيز.

إذن، لا زواج أبداً. العميد والعناد. وسوف تتحوّل العزوبية خَياراً: لن يستطيعوا محاربتي في أولادي. وكان يروي ضاحكاً أنه أراد مُذ كان شاباً، أن يبني بيتاً على شكل قلعة، “بحيث أستطيع أن أراهم من البرج وهم قادمون”. مُضحك هذا المقاتل. أمضى حياته في مواجهة العنف، وشطط الموارنة والزحف المُشين نحو المناصب المفرَّغة من الخدمة العامة والقرار الوطني. هكذا رفض كل عقد وقَّعوه بانحناء. ورفض شرح “مصلحة لبنان” على طريقة الفساد والخنوع، والتنازل عن السترة كمدخل إلى بقية التنازلات الباقية. ورفض أن يعترف بأهل العنف على أشكالهم وأنواعهم. ولم يكن يقبل أن يزوروه، أو أن يُصافحهم، أو يدخل مجلساً طرأوا عليه.

لا مجال للنقاش مع العميد. ولا إغراء يُغري. لا السلطة ولا المال ولا شيء. تجادلُه في “ضرورات” الأمور فيهزمك بنقائه شبه المطلق. وكم كان يبدو الوطن المجرَّح والمسفوك والمجنون عزيزاً من تلك الشقة الصغيرة، حيث بعد أن يسرِّب الزوّار، يبقى ريمون إده مع الطيور المحوِّمة على نافذة الفندق تأتيه قبل أن يهجَع، تسرّي عن وحدته، تصفّق له بأجنحتها الصغيرة، وتتركه يبتسم لمرارته وصموده وغربته، ثم يغفو على وسادة الضمير.

كان ضاحكاً، العميد. يعيش في ماضٍ انتهى، وفي مستقبل لن يأتي، وفي حاضر مضاد لميثاقه الصغير مع الوطن. “ماغنا كارتا” القانون والحقوق والحريات. لكنه كان ضاحكاً من الحياة وممّن حوله، ومن هشاشة اللبنانيين الذين أحبّوه في داخلهم وأنكروه. كلما لاحت وظيفة، أنكروه. كلما لاح ضابط سوري، أنكروه. كلما لاح عقد في البر أو البحر أو قُبالته، أنكروه. وفي جنازته، جاء ستة ضباط سوريين بلباسهم الاحتفالي. أرادوا أن يقولوا فوق نعشه وللأحياء، إنهم كانوا يكنّون له الاحترام. لم يترك لهم أن يودّوه، ولا ترك لهم ألاّ يحترموه.

كان مثل الرجل الذي من لامانشا. وكان يعثر دائماً على “بانشو” ما رفيقاً له في المعركة على الطواحين. عاش ألبير مخيبر تسعين عاماً، قسّمها بين الوقوف ضد سوريا وضد بشير الجميل. “عم تشوف ريمون بباريس؟” Comment va-t-il؟ وأما جان عزيز فيحمّلك رسالة خاصة، على المتلقّي نفسه أن يحلّ رموزها: “قُل للعميد، قطعنا خط الروبيكون”!

يضحك العميد ويخبئها في عبّه. يجمع بينه وبين هؤلاء السادة، وطن مُرتجى وخيبة كبرى. لا يريد اللبنانيون أناساً أنقياء إلا إذا كانوا قديسين، يعوّضون نزاهتهم بالعجائب. ريمون إده كان عبئاً. وكان مستحيلاً: فلتنسحب إسرائيل وسوريا والفلسطينيون، وبعدها أرشّح نفسي للرئاسة. وكان خِفاف الظلّ، وما أكثرهم، يقولون، إذا تحقّق كل ذلك فأنا أعمل رئيس جمهورية.

ليس هذا ما كان يريد العميد قوله، يا غبي. كان يريد أن يقول لك إنه يرفض رئاسة في سجن. وكان يريد أن يعلّمك أن الكرامة أهمّ من أعلى منصب في الدولة. وكان يريد أن يُفهمك – مهما كان ذلك صعباً – أن من ليس قادراً على أن يكون رئيس نفسه، كيف يحق له أن يكون أميناً على بلده ووطنه وكرامة أبنائه؟

طالما كتبتُ أن إحدى الخسائر كانت خلاف ريمون إده وفؤاد شهاب. كلاهما كان يعبّر عن التذمّر من الرخوية اللبنانية والانتهازية والتزلّف والتزلّم، وشهوة الاستقواء بالغير، وعادة الثأر من القانون، والاحتماء من الدولة بالإقطاع، وارتخاء مفاصل العدل. لكنهما اختلفا، في بنود “الماغنا كارتا”، على بند الحرية. الضابط، الذي تصله تقارير الوطن كل يوم، يعرف أن مواطنيه باعَة وشُراة، ودائماً في مناقصة أو مَزاد، غالباً علَني فاقع. والبرلماني المثالي يريد أن يعلّمهم كيفية العيش مع الحقوق، التعايش مع القانون.

كلاهما استمدّ نظريته من فرنسا. واحد يريد أن يكون ديغول، الجامع بين العسكرية والديموقراطية، وآخر يريد، قبل الوصول إلى مرحلة ديغول، معاقبة فيليب بيتان على خيانته وبيع فرنسا. عسكري لا يؤمن كثيراً، بنزَف المثقفين، ومدني لا يفهم عليهم، لكنه يريد الدفاع عن خربشاتهم. رجلان من عمالقة لبنان، الأول رمى الرئاسة ببيان مقتضب، والثاني رفضها ببيان مكرر. معجّل. عال.

الأول، أمير، بدأ حياته “مباشراً” في محكمة، والثاني ابن رئيس جمهورية من أوائل محامي لبنان، وقد بدأ حياته محامياً في ما كان يُسمى آنذاك قصر العدل، نقلاً عن الجمهورية الفرنسية، حيث هناك قصران: الرئاسة والعدل. كلاهما كان يشبه، في رؤيته وسلوكه، مدرسة الديموقراطيين المسيحيين في أوروبا بعد الحرب ونتيجة أهوالها: الإيمان بالدولة، على أنها المخطط والمنسّق والحَكَم والمموِّن والناظر والحارس.

أراد ريمون إده أن يكون القانون هو كل شيء: من القانون الدولي على الحدود إلى قانون الدولة في حماية مطار بيروت. لا مساومة في سلامة الأرض، ومن تتنازل له عن سُترتك، يطلب معطفك. لا مقايضة في المبادئ. مثله، مثل فؤاد شهاب، على رغم اختلاف الطباع، النزاهة ليست نسبية. الشهامة ليست انتقائية. السيادة ليست موسمية. لا تُشترى أمس وتُباع غداً.

مثل هذا السلوك، يُضعفك في لبنان. السياسيون يعيشون من أجل قالب الجبنة. والانتخابات “الشعبية” تجارة، واللائحة مثل لائحة مشتريات: ملتزم ومموّل ووكيل. كان ديغول يقول، إذا أجبرتني السياسة أن أختار بين خيانة وطني وخيانة ناخبي، سوف أخونه هو.

كان العميد يُعطي الانطباع أنه “مزّيح” وصاحب نكتة. غير أنه كان أكثر الناس جدّية وأصولية. كل صباح، في منفاه، كان يتلقّى “هاتف جبيل”. أخبارها ومشاكلها وولاداتها: “شو عملو بالطريق الفوقانية بالبوار”. للنيابة أصول. للفروسية البرلمانية أصول، للمعارضة الوطنية قواعد. فؤاد شهاب كان يربط كل شيء بـ”الكتاب”، أو الدستور، وهو كان يربط كل شيء بدفتر الحساب. حاذر الهفوة. حاذر النسيان. لا تترك لهم ما يعيرونك به.

24 عاماً في عزلة مع طيور المساء في “الكوين اليزابيت”. عندما نزلتُ في الفندق بعد سنوات من غيابه، قالت لي عاملة الغرف: “لقد ترك لي المسيو إده مبلغاً في وصيّته”. وزّع مالَه على عمال منزله الأبوي في القنطاري. ثمانية منهم. وطوال 24 عاماً، كان المسيو إده يُرسل إليهم رواتبهم كل شهر. كل شهر، كل سنة. فالرجل الذي كان يتظاهر بأنه غير عاطفي، كان وديع القلب، رفيع المشاعر، عالي الخُلق والأدب. وفؤاد شهاب كان يُقسّم راتبه كقائد للجيش، ثم كرئيس، ثم متقاعداً، ثلاثة أقسام: ثُلثاً له ولزوجته، ثُلثاً لمرافقه وعائلته وثُلثاً للفقراء.

كان ريمون إده الأقل قوة بين مرشحي الرئاسة. لا جماهير ولا خطابات ولا جرائد ولا تلفزيونات ولا تظاهرات ولا اعتصامات ولا أكثرية برلمانية ولا وزراء ولا شقاء ولا أبناء، ومجرد حزب نخبوي صغير. تلك هي القوة التي لم يتمتّع بها أحد. رائعاً كان هذا المسيو إده. تألّم كثيراً، لكنه مات قبل عرسال.