ليس في لبنان نظام أحاديّ الفعل على الصعيد السياسي، كما هو حال البلاد التي تحكمها الديمقراطية البسيطة، أو البلاد التي نظّمت تعدّدها بكونفدرالية تحكم كلاًّ من مكوّناتها ديمقراطية سلسة، ففي لبنان التعدّد الطائفي في قلب الديمقراطية، والديمقراطية في قلب التعدد الطائفي، يعنيان غياب معادلة واضحة لحاكم ومحكوم، ويعقدان المساءلة والمحاسبة، وعندما تقوم الثورة يستطيع كلّ طرف في الحكم أن يراها ثورة على غيره، وكلّ مكوّن سياسي أو حزبي أو شعبي له صفتان، صفة تنطلق من مشروعه السياسي وموقعه في اللعبة الديمقراطية سواء في المؤسسات أو في الشارع، وصفة تضعه في لعبة التعدّد كمكوّن يملك القدرة على التعطيل بقوة ما نسميه كلبنانيين الميثاقية.
منذ إنتفاضة 17 تشرين الأول، التي أصبح عمرها شهرين، واللبنانيون أمام سؤال كبير هو ما العمل؟
لا شكّ في أنّ الجواب البسيط هو بحكومة إنقاذية تستطيع إسترداد ثقة الشعب بالدولة، وتمتلك خطة نهوض اقتصادي وإصلاح مالي، وإرادة وعزيمة السير بمكافحة حقيقية للفساد المتراكم، إنتهاء بإستعادة المال المنهوب، لكن الحقيقة التي قالتها لنا الأيام الستون تؤكد أن الأمر الذي بدا سهل الحصول بمجرد الدعوة للاستشارات النيابية من جانب رئيس الجمهورية، يظهر شديد التعقيد مع طلبات التأجيل المستمرة للاستشارات، رغم تمسك رئيس الجمهورية بإجرائها، وبمعزل عما تفضي إليه هذه الاستشارات لجهة تسمية رئيس يكلف بتشكيل الحكومة. يُجمع اللبنانيون على توقع مسار معقد لتأليف هذه الحكومة ولاحقاً لظروف عملها ونجاحها، وبمعزل عمّا إذا كانت استقالة الحكومة بذاتها خطأً أم فخاً أم ورطة أم خطوة صحيحة، فنحن اليوم أمام مشهد مختلف، وأمام لبنان واللبنانيين معضلتان لا تحلّهما الأدوات الدستورية البسيطة، هما تشكيل حكومة قادرة على القيام بمواجهة التحديات، وما يستدعيه ذلك من إحاطتها بدعم سياسي وشعبي يصلان حدّ الإجماع، وتوفير مناخات النجاح لهذه الحكومة بالتوافق على الخطوط العريضة لعملها، التي تتشكل منها خطة الإنقاذ وينطلق منها البيان الوزاري للحكومة العتيدة.
الحكومة المطلوبة يجب أن تكون قادرة، قبل ان تبدأ بمهامها ضمن خطة المعالجة الإنقاذية، بتشكيلتها والتوافق المحيط بولادتها، على طمأنة كلّ الهواجس التي تتبادلها المكونات اللبنانية، طائفياً وسياسياً وميثاقياً، كما يجب ألّا تُترك لتواجه تعقيدات دولية وإقليمية ينقسم اللبنانيون حولها إلى جبهات تستنزف الحكومة الجديدة، وتصرفها عن مهامها، وهذا يعني ببساطة أننا في حاجة لوفاق وطني جامع يحيط بالحكومة قبل ولادتها ويرافقها بعد الولادة، وأن تدرك جميع القوى السياسية والطائفية أن لا فرص للربح إلّا وفقاً لمعادلة الجميع رابح، وأنّ كلّ سعي لمكوّن طائفي أو سياسي للربح على حساب خسارة مكوّن سياسي أو طائفي آخر سيعني خسارة الجميع، وأن يعمل هذا الجميع لبلوغ التوافق المنشود وفقاً لهذه القناعة وهذا الإدراك.
التوافق يستدعي حواراً وطنيّاً جامعاً يدعو إليه رئيس الجمهورية، ولا مانع من توسيع نطاق المشاركة فيه عن حضور اللقاءات الحوارية السابقة، ليضمّ الفعاليات الاقتصادية، ولكن لا بدّ من أن يتّسع هذا الحوار لممثلين عن الحراك الشعبي، الذي انطلق كحركة احتجاجية في معادلة السعي للتغيير بالوسائل الديمقراطية، فوجد نفسه في قلب المعادلة اللبنانية مكوّناً جديداً يضاف إلى المكونات التقليدية السياسية والطائفية، رغم تمسكه بلا طائفيته.
عندما بلغ التعقيد السياسي مراحل الأزمة والإستعصاء عام 2008 ذهب القادة اللبنانيون إلى الدوحة لعقد مؤتمر حوار وطني، وخرجوا بصيغة حل مهما كان الخلاف حول وصفها، لكنها وفّرت للبنان فرصة الاستقرار لسنوات لاحقة، وما يمرّ به لبنان اليوم أشد وطأة وقسوة، ويحتاج أكثر من ايّ وقت مضى الى هذا الحوار، الذي يجب ألّا يبقى رهناً بدعوة الخارج للبنانيين، الذين يفترض أنهم قادرون على اللقاء والحوار، ويفترض أنّ رئاسة الجمهورية التي أكّدت أهليتها للبقاء على مسافة فاصلة كافية من جميع الأطراف، كما أثبتت الوقائع صوابية مقاربتها لجهة عدم اختزال الأزمة بتحديد موعد للاستشارات النيابية، قادرة اليوم على تقديم رعاية منصفة وعادلة وموثوقة ومسؤولة لهذا الحوار.
الحوار اليوم وليس غداً هو ما يحتاجه لبنان واللبنانيون.