IMLebanon

الحوار وتنقية الذاكرة… بعد كلّ المصالحات!

 

يجدد البطريرك الماروني بشارة الراعي عند كل استحقاق مطالبته بعقد مؤتمر دولي حول لبنان، مرفقاً مطالبته بالإشارة إلى عجز القوى السياسيّة أو «النظام»، عن تأمين انتظام عمل المؤسسات الدستورية كتكوين السلطة التنفيذية، أو كما الحال اليوم، مع تخاذل النواب، عن القيام بواجبهم الدستوري وإنتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية. وبعد المطالبة بإعلان حياد لبنان، وما رافقها من استنهاض لتوصيفات لهذا الحياد من «إيجابي وناشط وفاعل» وما سواها من تفسيرات لا تمت بأية صلة لمفهوم الحياد في القانون الدولي، حمّل البطريرك الراعي الأمم المتحدة والدول التي تعتبر نفسها صديقة للبنان مسؤولية التحرّك من أجل «تجديد ضمان الوجود اللبناني المستقل والكيان والنظام الديمقراطي وسيطرة الدولة وحدها على أراضيها إستناداً إلى دستورها أولاً ومن ثم إلى مجموع القرارات الدوليّة الصادرة بشأن لبنان»، بعد «فشل الحوارات الداخليّة أو تفشيلها منذ سنة 2006 حتى «إعلان بعبدا» سنة 2012.

 

ويعود تخوّف البطريرك الراعي الى انعكاس التأخير في اعتماد هذا الحل الدستوري والدولي على «توريط لبنان في أخطار غير سلميّة ولا أحد يستطيع احتواءها في هذه الظروف»، مع اتجاه مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان قبل أيام، إلى تعيين «لجنة حقيقة ومصالحة» من حكماء دينيين وسياسيين ومدنيين تضع في سلّم أولوياتها العمل على «تنقية الذاكرة والضمائر» كشرط لإجراء حوار صريح وبنّاء بين المسيحيين والمسلمين من جهة، وبين الأحزاب والكتل النيابية من جهة أخرى»، تمهيداً للدعوة إلى الحوار، وذلك، بعد تجاهل اللبنانيين العمل على تنقية الذاكرة بعد اتفاق «الطائف»، ما كان من شأنه وفق البطاركة، أن يشكل حداً نهائياً للحرب، جرّاء عدم استشعار المسؤولين «الحاجة إلى مراجعات ذاتية نقدية ترقى إلى فحص ضمير ومحاسبة وتوبة وطلب معذرة للوصول إلى حوار حقيقي وإلى مصالحة، باتت اليوم ضرورة ملحّة…».

 

بعد 33 عاماً على انتهاء الحرب

 

الدعوة إلى عقد حوار وطني ومصالحة بين اللبنانيين بعد ما يقارب الـ 33 عاماً على انتهاء الحرب الأهليّة، تفتح الباب للتساؤل فعلاً عن هوية الأفرقاء المتخاصمين الواجب العمل على إتمام المصالحة بينهم، وما إذا كان المطلوب بعد «انتفاضة» شريحة كبيرة من اللبنانيين في 17 تشرين 2019 بكافة أطيافها وفئاتها الطائفية والمذهبية والمناطقية، العمل على إعادة ترسيخ موروثات الحرب الأهلية في ذهنها بعد أن انتفضت على أركانها؟ أو العودة إلى ما قبل 14 آذار 2005 التي كرّست الخطاب الوطني العابر للطوائف والمذاهب عبر تحالفات عابرة للطوائف والمذاهب والأحزاب؟ وهل مطلوب فعلاً التشكيك بمصالحة الجبل التي أقدم عليها البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير في العام 2000؟ أو العودة عن المصالحات التي رعاها البطريرك بشارة الراعي بين «القوات اللبنانية» وتيار «المردة» وتحديداً بين سمير جعجع وسليمان فرنجية؟

 

وأكثر من ذلك، هل المُراد تكريسٌ لسقوط ورقة «النوايا» التي صدرت من دارة العماد ميشال عون في الرابية عقب لقائه رئيس حزب «القوات اللبنانية» في حزيران 2015، والتي أشارت بوضوح إلى إجراء «مراجعة للعلاقة التي سادت بينهما خلال أكثر من ربع قرن وذلك من أجل تنقية الذاكرة من مناخات الخصومة السياسية التي طبعت تلك العلاقة»، قبل أن تتوج هذه النوايا بـ»تفاهم معراب» الشهير في العام 2018؟ وهل المطلوب نكء الجراح في الساحة الشيعيّة بعد التصفيات التي طالت رموز «حركة أمل»، قبل أن يتخطى «حزب الله» و»أمل» هذه المآسي وبات التعامل معهما كجسم متكامل وموحّد يعرف بـ»الثنائي الشيعي»!

 

وفي محاولة لمقاربة هذه الإشكاليات، يؤكد العضو السابق في المجلس الدستوري ورئيس كرسي اليونيسكو للأديان المقارنة والوساطة والحوار في جامعة القديس يوسف البروفسور أنطوان مسرّة لـ «نداء الوطن» رفضه المطلق لأي حوار وطني وتحويل هذه الدعوة أو الطرح إلى رياضة موسميّة يتم العودة إليه من حين إلى آخر، بعدما أُنجز الحوار بين اللبنانيين (المتخاصمين أو المتقاتلين) وانتهى في تأكيد مقدمة الدستور على أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه. وفي الوقت نفسه، توقف مسرّة عند الحاجة إلى حوارات في السياسات العامة، التربوية والإقتصادية والإجتماعية، بعيداً عن البحث في مسببات الأحداث السابقة (نبش القبور). وأشار إلى أن ما يحتاجه لبنان اليوم مؤرخين محاسبين (Historiens comptables) يعمدون إلى إبراز الأكلاف والمنافع التي نتجت عن الحرب بعيداً عن تضييع الوقت في البحث عن الأسباب والمسببات التي يعتمدها المؤرخون التقليديون في الغالب، لافتاً إلى الكلفة العالية جداً للحوادث التي شهدها لبنان نسبةً إلى النتائج الضئيلة التي حققها، وهذا ما يؤدي إلى التعلّم من تلك التجارب والمآسي والتوبة، أي عدم تكرارها.

 

ورأى مسرّة أنّ المطلوب إدخال المصالحات في قلب المجتمع وفي الذاكرة الجماعية المشتركة لدى اللبنانيين من خلال كتابة تاريخ علمي واقعي، إنطلاقاً من «علم النفس التاريخي»، ووضع ما يُنسب إلى احداث في الماضي في زمانها ومكانها وظروف زمانها ومكانها وعقليات تلك الزمان، ما يساهم في بناء الذاكرة لدى الجيل الجديد، رغم تطور المجتمع اللبناني في اندماج أبنائه بشكل غير مسبوق في ما بينهم، لتبرز أهمية تعلّم التاريخ في تنقية الذهنيات القديمة وتغيير جذري في المقاربة العلمية التي تحاول التكلم عن المسيحيين والمسلمين كأنهم هم أنفسهم في العام 1860 أو 1920، في حين يتكلم بعض المسلمين في العام 2022 خطاب بيار الجميل «الجدّ»، في مقابل بعض القوى المسيحيّة المستمرة في حمل الخطاب الذي ساد أيام «لبنان الصغير»، وذلك بهدف استغلاله شعبوياً في العمل السياسي.

 

ومع تأكيد مسرّة على أنّ الدستور يجسّد الحلّ والإختبار العملاني لمعالجة التحديات التي يمر بها لبنان بعيداً عن الذهاب نحو أيّ صيغة أخرى، شدد على أنّ مشكلة لبنان الفعليّة تكمن في وجود دولتين، الأولى شرعيّة على المستوى الرسمي والثانية تمتلك سلاحها وديبلوماسيتها الخاصة، ليوضح في الختام أن الدعوة إلى الحوار هي دعوة إلى حوار بين دولتين، قد يؤدي إلى «تقسيمٍ مستحيل»، في حين أن المطلوب تطبيق الدستور والإلتزام بتطبيق قرارات الشرعية الدولية.