أدّى نجاح التحالف، أو التلاقي، أو التفاهم، على قضيّة التمديد، لقائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون، ولمدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، الى اعادة تحريك الطرح الحواري الذي سبق للرئيس نبيه برّي ان دعا إليه في الأشهر التي سبقت معركة التمديد. وبالرغم من حنكة الرئيس برّي وقدرته على الاقناع والترغيب، فلم تنجح محاولاته في جمع الافرقاء حول طاولةٍ للحوار. ولكن مع مشهدية جلسة التمديد التي صمدت بفعل تأمين النصاب من أفرقاءٍ، رافضين التشريع بغياب رئيس للجمهورية، وكتلة الرئيس برّي ومن يدور في فلكها، عاد، بعض المتحمّسين لفكرة الحوار، لبناء الآمال على امكانية استكمال هذه المشهدية بطاولة حوار رئاسية.
ولكن فاتهم أنّ التفاهم، كان بين أفرقاء من الجهتين المتعارضتين وطنياً، اجتمعوا على ملفٍ يُعنى بالأمن القومي، خشيةً من احتمالات امتداد الصراعات السياسية إلى صراعات على الارض، تترافق مع تفكك امني وعسكري رسمي، ما يعني فقداناً للقدرة على وضع الضوابط، ما قد يجرّ الجميع إلى ما لا تُحمد عقباه.
فريقٌ واحد عارض التفاهم الواسع، ولم يعر أهمّية للخشية الأمنية المشروعة، وفضّل تغليب حساباته التنافسية الرئاسية، على الحساب الأمني وعلى السلم الأهلي، وهو نفسه أكثر الأطراف الذين استخدموا الجيش الوطني، خدمةً لحساباته الخاصة، حيث خاض حروباً سياسية وعسكرية خاصة باهدافه، مُضحّياً بالجيش لاجلها، ليؤكّد مُجدّداً، استعداده من دون أي تردّد لاستعمال الجيش ذخيرةً لمعركته السلطوية الحالية، بالدفع بالبلاد إلى حدّ الحروب والمواجهات، التي، إن اندلعت، فلن يخوضها بجسده وبقوته بل بقدرة الجيش، لينطبق عليه مقولةً للأديب والمُفكِّر الفرنسي رومان رولان، الذي عمل للسلام في بدايات القرن العشرين «الحرب بغيضة ولكن الأبغض منها هم الذين يتغنّون بها من دون ان يخوضوها». فكيف إذا كان هذا الفريق يرى أنّ احتمالات حدوثها عالية، فيدفع باتجاهها، مُعارضاً، مع سابق تصوّر وتصميم محاولات منعها؟
من خاض المعارك الداخلية سابقاً وقدّم الكثير من شبابه وضحّى بالكثير لأجل تثبيت قناعاته، يُدرك معنى الحروب الداخلية وكلفتها، ومن استخفّ دائماً بجروح الآخرين وسخّف النضالات الوجودية، بحيث لا مبدئية وطنية له، فالسياسة بالنسبة له هي لعبة سلطة، والجيش بالنسبة له آداةٌ يختبئ خلفها ويخوض معاركه بها.
ها هو طرح الحوار ينطلق مُجدّداً، ليدلّ بوضوح الى أنّ معظم الفرقاء الذين التقوا على جلسة التمديد للاستقرار الأمني، ينظرون برجاء لما حدث ويتمنون أن يستمر التعاون لفك أسر الرئاسة، ولكنهم بالرغم من إدراكهم خطورة استمرار الشغور في الرئاسة، فإنّهم يختلفون حول نوع الحوار الذي قد يُنتج جلسة لانتخاب الرئيس، علماً أنّه بمقارنةٍ صادقة بين المسارين، يستطيعون أن يستخلصوا العبر. فعندما أعطيت الأولوية للحسابات الفئوية، تعطّل الدستور، وفرُغت الرئاسة، وعندما انتقلت إلى مفاهيم الشراكة، ساهمت بايصال ملف التمديد للنهايات السعيدة.
تأتي الاستحقاقات إنعكاساً للحالة الوطنية، ولذلك، فالمعركة الرئاسية، ليست مسألة محصورة بها فقط، بل تُشير إلى الصراع بين القناعات المختلفة، ولن يفصل بينها الا الاستكانة للدستور وللديمقراطية، أمّا عامل الفرض فلم ينتج عنه في الماضي الا المواجهات والحروب والصدامات الداخلية. والحوارات التي قد تُنتج حلولاً وتفاهمات هي المثيلة للحوارات التي حدثت في ملف التمديد، فتجارب طاولات الحوار التي جرت سابقاً في لبنان لم ينتج عنها الا الكوارث والأوضاع الشاذّة وتغليب للفئة التي لم تحترم بنودها، مُصرّحةً، بكل وقاحة، بأن «تُبلّ أوراق الاتفاقات وأن يُشرب زومها». هذا ما حدث فعلياً بالسابق، والمؤمن لا يُلدغ من الجحر ذاته مرّتين، بل يعمد إلى السبل التي انتجت حلولاً، وما زال المثال حياً، وهو الحوار المُجدي الذي انتج تمديداً.
إنّ الفريق الذي يسعى لسياسات الحياكة بنفسٍ طويل، وصولاً لفرض قناعاته على الآخرين، يُواجه الآن بفريقٍ يتميّز بنضالاتٍ طويلة الأمد للحفاظ على قناعاته، وما التاريخ البعيد والقريب الا شاهد على ذلك. إذاً، لا حلول تُرتجى، الا بتخلّي من يعمل لمشروعه الإيديولوجي، عن مخططاته والذهاب إلى خيار الشراكة الحقيقية، والتوقّف عن اعتماد وكلاء في ساحات كافة الفئات، لمساعدته على تمرير الاعيبه. وأنّ الجدّية التي يجب أن يبدأ بها، هي بوضع خيار الحرب والسلم والمفاوضات والتسويات، على طاولة الشراكة اللبنانية – اللبنانية، أي على طاولة الحكومة اللبنانية، فهنا فقط، يحتاج لبنان لطاولة حوار، كي لا يتحوّل الحوار للحوار، ولتقطيع الوقت ولربح الفرص.
الحوار الوطني المُجدي لا يكون بين مشاريع مختلفة بثقافات متعارضة، فالنقاش بين افرقاء الوطن الواحد ليس مناورات، ومن يؤمن باستمرارية وطن الشراكة، يدعو إلى حوارات مُنتجة، يصدر عنها التزامات ببناء الدولة الحقيقية، وانهاء حالة الدويلة، فهل هكذا حوار وارد في عقول الداعين للحوار؟