ليست المأساة أن الرئيس ميشال عون انتظر 5 أعوام ونيف ليدعو، وهو على حافة نهاية عهده، إلى عقد «مؤتمر للحوار الوطني»، بينما كان في وسعه أن يباشر عهده، الذي بدأ بعد فراغ رئاسي هندسه «حزب الله» واستمر عامين ونصف العام، بالدعوة إلى مثل هذا المؤتمر، وليست المأساة أن يدعو إلى الحوار الوطني، في حين يعجز عهده «القوي» عن عقد اجتماع لمجلس الوزراء الذي يعطّله «حزب الله»، متمسكاً بإزاحة القاضي طارق البيطار، المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، ما يعني تعطيل السلطة القضائية بعدما شلّ السلطة التنفيذية.
وليست المأساة أن عهده أيضاً عجز عن تنفيذ ما قرره «مؤتمر الحوار الوطني» السابق حيال حماية علاقات لبنان مع دول الخليج العربي الشقيقة، وحيال مبدأ «النأي بالنفس»، وأن كل القوى اللبنانية التي تعارض تحالفه مع «حزب الله»، الذي يربط لبنان عبر هيمنة سلاحه بالسياسة الإيرانية، في وقت لم تعد طهران تتوانى عن القول إنها باتت تسيطر على بيروت، من دون أن نسمع منه اعتراضاً أو رداً، رغم أنه المؤتمن على السيادة والدستور… نعم ليست المأساة أن هذه القوى رفضت المشاركة في هكذا حوار فحسب، بل لينهي عون الأربعاء مشاوراته، بتصريح لصهره جبران باسيل قال فيه: «الحوار يجب أن يحصل بمن حضر»، أي كمن يحاور نفسه!
المأساة في الأساس أن دعوة عون إلى الحوار تأتي الآن ولبنان كما سبق أن قال أشبه بسفينة تايتانيك التي تغرق في القاع، لتبدو وكأنه رجل يدعو العائلة المنقسمة إلى الاتفاق على لون جديد لطلاء جدران البيت المتهالك الذي ينهار على رؤوسهم، لكن في وقت يحرص قصر بعبدا على توضيح أنها ليست دعوة هدفها تعويم العهد، الذي شبع غرقاً طبعاً مع تايتانيك اللبنانية، في وقت يعرف فيه اللبنانيون أنها ليست إلا محاولة تعويم فاشلة حتماً، تأتي عشية الانتخابات النيابية، التي ستحاول المنظومة السياسية الفاسدة والحاكمة تأجيلها أو تعطيلها، مدعومة طبعاً بسطوة سلاح «حزب الله» وعلى خلفية القلق الإيراني؛ خصوصاً بعد النتيجة الفاجعة التي حصدتها في العراق؛ حيث تصل الأمور الآن إلى حدّ مطالبة الميليشيات العراقية الموالية لطهران بالانفصال وإعلان جنوب العراق منطقة شيعية!
والمأساة الأهم أن عون تناسى أن دعوته إلى الحوار هي من لزوم ما لا يلزم، ليس للأسباب الواردة أعلاه فحسب، بل لأن المواضيع الثلاثة التي اقترحها كجدول أعمال لمؤتمر الحوار الوطني، لن يتمكن قطعاً، في ظل هيمنة «حزب الله» على الدولة وسياستها، من أن يحقق أي تفاهم حولها، وخصوصاً أنه سبق لمقررات مؤتمرات الحوار أن ظلّت حبراً على ورق، وهي أولاً الاستراتيجية الدفاعية، وثانياً عملية الإنقاذ الاقتصادي والمالي، لبلد سجل أسوأ انهيار منذ 200 عام، وثالثاً اللامركزية الإدارية والمالية.
أولاً – في عام 2006 كانت الاستراتيجية الدفاعية بنداً أساسياً على طاولة الحوار الوطني الأولى، فماذا كانت النتيجة، هل نفذت الدولة اللبنانية قرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680 وهي تدعو صراحة إلى نزع السلاح من يد كل الميليشيات وحصره في يد الدولة اللبنانية؟ طبعاً لا عندما يحكم سلاح دويلة «حزب الله» الدولة وسلطاتها، ورغم هذا يبرز السؤال دائماً، عندما يكرر عون القول إن «حزب الله» يلتزم القرار 1701، هل يتذكر تلويح حسن نصر الله بـ100 ألف صاروخ و100 ألف مقاتل في وجه اللبنانيين والدولة اللبنانية؟
في العام 2012 كانت الاستراتيجية الدفاعية بنداً ساخناً وصاخباً على طاولة الحوار الوطني، التي انتهت بإقرار المؤتمرين «إعلان بعبدا» كاتفاق مبرم لا عودة عنه، (رغم أن عون تخلّف يومها عن حضور الجلسة الثانية من المؤتمر) ولكن حسابات «حزب الله» وحليفه «التيار العوني» خالفت هذا الاتفاق، وخصوصاً في بنده رقم 11 الذي دعا إلى التمسك باتفاق الطائف ومواصلة تنفيذ كامل بنوده، ولكن سرعان ما صارت نظرية «الديمقراطية التوافقية»، التي أقرت في اتفاق الدوحة عام 2008 سلاحاً لتعطيل الدولة باسم الميثاقية، على ما يجري الآن في مجلس الوزراء، وأيضاً البند 12 الذي ينص على معنى مبدأ «النأي بالنفس» عندما يدعو حرفياً إلى «تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليمية، وذلك حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقة…».
ثانياً؛ اللامركزية الإدارية، وهي بند أساسي في «اتفاق الطائف» الذي صار دستور البلاد، ولكن هذا البند لا يزال ينام في أدراج مجلس النواب، وعندما أضاف إليه عون كلمة المالية أخيراً، انهمرت ردود الفعل الرافضة من حلفائه في «حزب الله» ومن «حركة أمل»، بما يعني تالياً أن أي حوار حول هذا العنوان لن يؤدي إلى أي اتفاق، وإن كان عون يقصد منه طبعاً دغدغة انتخابية شعبوية عند اللبنانيين، الذين ينتقدون سطوة التهريب والتهرّب من الضرائب، وفلتان الحدود اللبنانية مع سوريا وسيطرة «حزب الله» عليها.
ثالثاً – خطط الإنقاذ الاقتصادي والمالي، بعدما نزل 80 في المائة من اللبنانيين تحت خط الفقر والعوز، وباتت المجاعة والأمراض تهدد الناس، وقد انهارت قيمة الليرة اللبنانية وصار الدولار يساوي 33 ألف ليرة، ما أدى إلى ظهور طوابير الذلّ أمام محطات الوقود والأفران والمستشفيات والصيدليات.
ولكن أي إنقاذ يمكن أن يقرره حوار يفترض أن يجمع المنظومة السياسية الفاسدة التي صنعت الخراب ونهبت البلاد والعباد، وعلى أي أساس بعدما قال عون لمجلة «باري ماتش» إن السياسيين حماة الفساد، يتصوّر أن الذين نهبوا البلد هم الذين سيصنعون الإنقاذ والإصلاح، وأهم من كل هذا عندما يراهن على خطط إنقاذية اقتصادية تتلاءم مع شروط صندوق النقد الدولي، هل ينسى رأي حليفه «حزب الله» الذي يرفض هذا التوجه، لأنه يعتبر صندوق النقد من مؤسسات الاستكبار الدولي، ويدعو إلى الاتجاه شرقاً للالتحاق بإيران الغارقة في أزماتها الاقتصادية والمعيشية؟
ربما كان على الرئيس عون أن يتذكر كل هذه الوقائع وقد كان شريكاً فيها، وعليه أيضاً أن يتذكر بعد مقررات مؤتمر الحوار الوطني عام 2012 ماذا قال النائب محمد رعد متهكماً بلسان «حزب الله» أي «بلّوه واشربوا مياهه»، وهو أيضاً الذي قال قبل يومين بعدما كان أول من استشارهم عون في دعوته إلى المؤتمر، ما ذكّر اللبنانيين بكلامه السابق، متعمداً الإيحاء بما يتجاوز الاستخفاف بالرهان على مواضيع الحوار الثلاثة المقترحة، عندما وقف أمام الصحافيين ليقول بلهجة نشوة واستعلاء: «سنبقى نحن أسياد هذا البلد». صحيح أنه استطرد تمويهاً بالقول: «نحن اللبنانيين»، ولكن المعنى كان واضحاً وجلياً، وهو أن كل حديث في الاستراتيجية الدفاعية سيبقى وهماً في نظر الحزب وإيران، وكل رهان على اللامركزية الإدارية والمالية لن يمر، ويمكن إغراق كل شروط صندوق النقد الدولي لدعم لبنان، بالمازوت الإيراني!