مشكلة العهد ليست مع خصومه بمقدار ما هي مع نفسه. ومشكلة الحوار الذي أراده الرئيس ميشال عون ليست مع المقاطعين بل مع الموافقين وبالذات مع”الثنائي الشيعي”، وبالأخص مع الحليف”حزب الله”. ومن حق العهد أن يستغرب تساؤل المختلفين معه عن نياته وينفي إتهامه بتوظيف الحوار في “تقويم” العهد. فما تعلمه جو بايدن من مايك مانسفيلد زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ “أن من الملائم دائماً التساؤل عن حكم شخص آخر، لكن من غير الملائم دائماً التساؤل عن حوافزه لأنك ببساطة لا تعرفها”. غير أن من واجب العهد إجراء قراءة واقعية، من خارج الشعارات والسجلات، في ما قاد لبنان واللبنانيين الى”جهنم”.
وهذه فرصة للمراجعة العميقة والقيام بوقفتين: وقفة مع النفس، ووقفة مع الحليف “حزب الله” حيث الحوار الآخر. وهي أيضاً فرصة لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي مارس “تدوير الزوايا” بأكثر من اللزوم، بحيث صار حبيس دائرة لا يستطيع الخروج منها لدعوة مجلس الوزراء الى الإجتماع خوفاً من إنفجار البلد، ولا إستمرار الدوران فيها خوفاً من ضياع الفرصة الوحيدة الباقية لإنقاذ البلد.
ذلك أن الحكم على العهد إيجاباً أو سلباً ليس فقط من خلال ما فعله بل أيضاً من خلال ما لم يفعله. وليس في ممارسة المسؤولية حجة إسمها “ما خلّونا”. فالمسؤول الذي يصطدم بعقبات تحول دون تحقيق المشاريع التي وعد بها، يعمل المستحيل لتجاوز العقبات. وإذا لم ينجح، فإنه يستقيل حفاظاً على صدقيته.
أخطر ما فعله العهد، وسط الخلاف في الداخل والخارج حول النظرة الى “تفاهم مار مخايل” بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” هو التصرف كطرف لا كحكم. وهو الخلاف مع كل الشركاء في الوطن، باستثناء “حزب الله” ولا سيما مع الذين صاروا حلفاء وساهموا في مجيئه. وهذا ما جعل خيارات العهد محددة بتحالفه الوحيد، بحيث ضحى بنفسه من أجل عهد لن يأتي.
وأخطر ما لم يفعله هو التغاضي، لا فقط عن بقاء البنود المهمة في “تفاهم مار مخايل” حبراً على ورق بل أيضاً تجاوز “حزب الله” للتفاهم عبر الدور الإقليمي لسلاحه في سوريا والعراق واليمن وأماكن أخرى. وهو دور أساء الى علاقات لبنان العربية وخصوصاً مع السعودية ودول الخليج التي قدمت الكثير من المساعدات له. والأخطر هو ما يتصور العهد أنه الأفضل: التفاهم على الأمور الإستراتيجية، بصرف النظر عن خلافات في الأمور الداخلية. فما يؤمن به “حزب الله” إيديولوجياً وما يعمل له إستراتيجياً، هو مشروع “ولاية الفقيه” بقيادة إيران، وتغيير هوية لبنان، وتحويله الى جزء من “جبهة المقاومة” للدفاع عن الجمهورية الإسلامية وضمه الى المشروع الإقليمي الإيراني. وليس من أجل هذا كان “التيار الوطني الحر”.
يقول ميغ جاكوبس من جامعة برينستون: “أكبر غلطة يمكن أن يفعلها المرء في أزمة هي ألا يفعل الكثير جداً”. وما نعانيه ليس فقط فعل القليل جداً بل أيضاً اللافعل.