بمعزل عن نتائج، يعكس الحوار الوطني الذي دعا اليه الرئيس نبيه بري في مجلس النواب بجولته الثالثة واقع البلاد، كما هو، بلا تجميل وحتى بلا حقنة خفيفة من «البوتوكس» السياسي: إرادة القوى السياسية تَجنّب الفتنة، وحوار يعي المشاركون فيه أنه بدل عن ضائع. أما الضائع فيتمثل بمؤسسات الدولة في شغورها المعلًن، مثلما هي حال الرئاسة الاولى، وغير المعلَن في مؤسسات الدولة الأخرى. إنه حوار الضرورة وإن كان حوار طرشان. فللحوار قيمة في الأزمات الحادة، وإن لم يبدّل رأي المتحاورين ومواقفهم. صحيح أن قرارات الحوار السابقة لم تلق طريقها الى التنفيذ، إلا أن الحوار يشكل إطاراً جامعاً في واقع سياسي مأزوم، لم يستعد موقعه الطبيعي منذ انتهاء الحرب الى اليوم.
يساهم الحوار الوطني في تظهير مشهد مطَمئن بالمقارنة مع مشهدية العنف والدمار واللاحوار بين ابناء الوطن الواحد والدين الواحد على امتداد العالم العربي. فَمَن مِن الأطراف المتنازعة في سوريا والعراق وليبيا واليمن بإمكانه أن يجلس حول طاولة حوار، أو شجار؟ هذا لا يعني أن أوضاع لبنان تصبح مقبولة بالمقارنة مع مصائب الآخرين، إلا أن استقرار الضرورة يبقى افضل من جحيم القتل المجنون. يؤمِّن الحوار شبكة أمان في حالات الطوارئ القصوى، وفي ظني أن هذا ما دفع الرئيس بري إلى إعادة إطلاق الحوار، وهو المتمرّس في رعاية الحوارات على أنواعها، بمعزل عن مردودها الآني واللاحق. كما ان الحوار أداة احتياط قد تفرضها ظروف الضرورة المسوَّرة بغموض بنّاء.
الحوار الوطني الأول في لبنان التأم بعد اندلاع الحرب في أيلول 1975 ودام نحو شهرين ولم يستطع ردم الهوة بين المتحاورين – المتحاربين. «لجنة الحوار الوطني» آنذاك جمعت سياسيين وشخصيات من كل الطوائف والتوجهات السياسية في تلك المرحلة، وكان محرّكها وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام. دار الحوار على وقع المعارك المتنقلة في العاصمة والضواحي وكأنه حوار من أجل استكمال الحرب، فتكون الحرب، كما الحوار، وطنية.
حوارات المرحلة الحاضرة أطلقها الرئيس بري في 2006 وتابعها لاحقاً رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان الذي اعتبر أن «إعلان بعبدا»، الذي لم يتبناه فعلياً إلا صاحبه، سيكون عصا سحرية بمجرد إعلانه لانتشال البلاد من مشاكلها العالقة منذ عقود. الحوار الوطني لن يكون بديلاً من الدولة ومؤسساتها، وهذه ليست غاية الداعي الى الحوار ولا المتحاورين. إنه وسيلة تواصل وتلاقي بدل القطيعة الكاملة وسجالات المتاريس الإعلامية. وهو أيضاً متنفس لا بدّ منه في زمن الهوة المتزايدة بين الركود السياسي والحراك الشعبي.
حوار مجلس النواب يبقى البديل الأفضل لحوارات لم تعد متاحة داخل لبنان أو خارجه. فالجميع غارق في مشاكله وأولوياته بعد الربيع العربي واتفاق فيينا. فما على اللبنانيين سوى الاتكال على الذات وإيجاد الحلول للأزمات المستولدة والموروثة. وللحوار وظيفة قد يحتاجها المتحاورون، المؤيدون والمعارضون، ولو بعد حين.