لم يتأخّر «المحظور» قبل أن يقع. كان كلّ شيءٍ يمهّد له صباح الخميس، بعد «البروفا» التي نفذها مناصرو «التيار الوطني الحر» مساء الأربعاء، من خلال مواكبهم السيّارة الممتدّة في مختلف أنحاء العاصمة بيروت، معلنين «الاستنفار» الكامل لتصعيد التحرّكات وفق قاعدة «المقتضى يُبنى على مسار جلسة الحكومة».
لم ينتظر أحد صافرة انطلاق الجلسة «المفصلية» لمجلس الوزراء، فالأجواء بدأت بـ«الاشتعال» منذ لحظة وصول الوزراء إلى السراي، الذين اختلفت تصريحاتهم حدّ «التناقض» بكلّ ما للكلمة من معنى، بفعل انقسامهم بين ثلاثة معسكرات، معسكر «التيار» من جهة، ومعسكر «المتضامنين» معه «معنوياً» من الحلفاء، ومعسكر «المناهضين» له من جهةٍ ثانية.
وزير الخارجية جبران باسيل تولى دفة «التصعيد» عندما دخل السراي حاملاً الدستور اللبناني، قائلاً أنّه يتظاهر اليوم من أجله، قبل أن يبدو كمن «يستدعي المشكل»، على حدّ وصف البعض، عندما لم ينتظر خروج المصوّرين الصحافيين من قاعة مجلس الوزراء ليتهم رئيس الحكومة تمام سلام بالتعدّي على صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، ما دفع الأخير للردّ عليه بقساوة، قائلاً «عندما أتكلم أنا، أنت تسكت».
هكذا، شكّل هذا السجال الناري الذي دار بين الجانبين «كلمة السرّ» التي فتحت العنان أمام التحرّكات «العونيّة»، وصولاً حتى تحويل المعركة إلى «شخصية» بين «التيار الوطني الحر» ورئيس الحكومة تمام سلام. وهنا، تتحدّث مصادر سياسية مطلعة عن أخطاء بالجملة ارتكبها الفريقان على حدّ سواء في إدارة معركته، إذ لم يكن مناسباً أن يتوجّه رئيس الحكومة بكلامٍ من هذا النوع «الاستعلائي» إلى أحد الوزراء في حكومته، تحت أيّ ظرفٍ كان، كما أنّ «قمع» الإعلام غير المسبوق لم يكن «ضربة معلّم» بأيّ شكلٍ من الأشكال، إذ لم يسبق أن مُنِع الصحافيون من بثّ الرسائل المباشرة والتواصل مع الوزراء في أيّ وقتٍ، ولا شكّ أنّ شعار «تنفيس الاحتقان» الذي استخدمه البعض لتبريره هذه الخطوة أتى بنتائج عكسيّة، فهو الذي زاد التشنّج عمليًا، ورفع درجات الاستنفار إلى حدّها الأقصى.
في المقابل، تقول المصادر أنّ «التيار» أخطأ في عنوان حراكه عبر تحويله المعركة لـ «شخصية» مع سلام، عبر توصيفه تارة بـ «الداعشي» وتحميله تارة أخرى مسؤولية مصادرة الحقوق المسيحية، وهو خطابٌ لطالما كان «الوطني الحر» رأس الحربة في مواجهته، فإذا به يتبنّاه اليوم بشكلٍ مريبٍ ومثيرٍ لعلامات الاستفهام، والأنكى أنّه يأتي في وقتٍ يعلم القاصي والداني أنّ الأزمة أكبر من سلام، بل حتى من الحكومة، وهي أزمة نظام بكلّ ما للكلمة من معنى، ومشكلتهم هي مع النظام أولاً وأخيراً، ولعلّ البوصلة يجب أن تُوجَّه إلى هذه النقطة بالتحديد، بدل التركيز على قشورٍ ولا تسمن ولا تغني من جوع.
لكنّ مصادر «التيار الوطني الحر» ترفض ما يُحكى هنا وهناك عن أنّ الحراك انحرف عن مساره وأنّ بوصلته ضاعت بشكلٍ أو بآخر، مشيرة إلى أنّ ما حصل تزامنًا مع جلسة الحكومة كان عفوياً، إذ إنّ التعليمات كانت واضحة في البدء بانتظار ما سيرشح عن الحكومة ليُبنى عندها على الشيء مقتضاه، ولكنّ السجال الذي وقع في بداية جلسة مجلس الوزراء فرض تعديل «أجندة» التحرك. وتشبّه المصادر الحراك «العوني» بأنه ككرة الثلج باعتبار أنّه يبدأ صغيراً ثمّ يكبر شيئاً فشيئاً، مشدّدة على أنّ ما حصل خلال الساعات الماضية ليس سوى البداية، وتؤكد أنّه مستمرّ حتى تحقيق أهدافه، التي تتخطّى الرئاسة والتعيينات كما يحاول البعض تصويره، مشيرة في هذا السياق إلى أنّ الكلام الذي صدر عن رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون كان واضحاً بأنّ المعركة ستُستكمَل حتى النهاية، وحتى استعادة كلّ الحقوق المفقودة، لافتة إلى أنّ المطلوب أن يقتنع الجميع بضرورة احترام الشراكة وتحسيدها فعلاً وقولاً، شاء من شاء وأبى من أبى.
أما خصوم «التيار»، فاستنفروا بدورهم لصدّ الحراك العوني وتجريده من معانيه بكلّ ما أوتوا من قوة. وفي وقتٍ لفت غياب «القوات اللبنانية» عن الصورة بالمُطلق، الأمر الذي ربطه البعض بالتقارب المسجّل بين الجانبَين في الآونة الأخيرة، فإنّ مصادر أخرى في قوى الرابع عشر من آذار تختصر الحراك بعبارة «جنونٌ ما بعده جنون»، وترى أنّ «القناع العوني سقط بكلّ ما للكلمة من معنى» من خلال هذا الحراك، متسائلة عمّا جناه رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» منه، ومن الصدام مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية، بعدما كان دائماً يعتبر الأخير خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه، فإذا به هذه المرّة لا يتوانى عن اتهام القيادة بالكذب لتبرير الاعتداء على الناس، على حدّ تعبيره.
وفيما تشدّد هذه المصادر على أنّ لا أفق لهذا التحرّك، لأنّ التجارب اللبنانية الكثيرة أثبتت بما لا يقبل الشكّ أنّ ضغط الشارع لا يوصل إلى أيّ مكان، تستهجن الأسلوب التحريضي الذي يعتمده «التيار»، والذي وصل بإعلامه الأمر لحدّ وصف الجيش اللبناني بـ «عسكر تمام سلام»، وتصوير السجال بين الأخير والوزير جبران باسيل بأنه هجوم على «الوزراء المسيحيين». وتسأل: «ماذا لو اعتبر السنّة الآن أنّهم مستهدَفون وأنّ الحقوق السنية معرّضة للخطر؟ ماذا لو قرّروا عندها أن ينزلوا إلى الشارع للمطالبة بحقوقهم؟ من يتحمّل العواقب عندها؟»
عمومًا، فإنّ مصادر سياسية تعرب عن اعتقادها بأنّ المساعي ستتكثف خلال الساعات المقبلة من أجل حلّ الأمور بالتي هي أحسن، قارئة في إرجاء جلسة مجلس الوزراء لما بعد عيد الفطر المبارك بمثابة «مؤشر» أولي على السعي نحو «التهدئة»، معتبرة أنّ الفترة الفاصلة عن الجلسة ستكون بمثابة «هدنة» سيستثمرها مختلف الأفرقاء لتكثيف اتصالاتهم خصوصًا أنّ اتفاقاً جرى على أن يتمّ النقاش بآلية عمل الحكومة في أول جلسةٍ لها. وتشير المصادر إلى أنّ الأمور لن تنتهي إلا بتسوية في نهاية المطاف، وهذا الأمر يعرفه القاصي والداني، لأنّ البلد لا يُحكَم إلا بالتوافق، وحتى في حال تغيير النظام، فإنّ شيئاً لا يمكن أن يحصل على قاعدة «غالب ومغلوب»، بل يجب أن يكون بإجماع مختلف الأفرقاء.
رُحّلت الأزمة لما بعد عيد الفطر إذاً. وإذا كانت كلّ الاحتمالات تبقى مفتوحة حتى ذلك الوقت، فإنّ الأكيد أنّ ما حصل في شوارع بيروت خلال الساعات الماضية لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام، لأنّه كان بمثابة «بروفا» لا يجب أن يتأخر أحد في استخلاص «العِبَر» منها، وأولها أنّ أحداً لا يعرف كيف يمكن للصدام أن ينتهي في حال بدأ، وهو سيكون لا شكّ بمثابة سحرٍ ينقلب على الساحر والجميع دون استثناء…