“تسونامي” الأزمة الاقتصادية حوّل المتسوّقين من زبائن الى “متفرجين” يقارنون باندهاش ما لديهم من ملابس والموضة السائدة كما الالوان، نوعية الاقمشة المتداولة على ابواب فصل الشتاء. استنباط همة الزبائن المعدودة الصامدة في جبيل، المتن وكسروان تشي ان الاسعار المرتفعة تلفت الانتباه فيذوب منطق “زبون المحل” مهما كانت جودة بضاعة المحل. لا يختلف الامر بين متجر للملابس، أحذية، ومفروشات او حتى الكترونيات. كلها تطرد الزبون بحجة موحدة: اولويات العائلة الطعام والسلة الغذائية.
كم تكلف “النقلة” الموسمية من الصيف الى الشتاء؟
المتاجر “واجهة” للصناعة، فمصدر البضاعة مؤشر الى حجم التصدير، والاستيراد. عينة أسواق في جبيل كسروان والمتن لا تبشر بالخير، فالذي استطاع “تموين” محله بالبضاعة الجديدة اتكل على الصين كتاجر الاحذية زاهر (سوق جونية) الذي يسأل بكل برودة ممزوجة بفقدان امل يلوح في عينيه: اين معامل لبنان لنشتري منها؟ قد لا تكون الاجابة متوفرة عند المتلقي فيردف مسرعاً متلقفاً ردة الفعل: “الانتقال من الصيف الى الشتاء يكلف 10 آلاف دولار”. العودة الى “خميرة”، اي ما تبقى من بضائع الاعوام الـ 20 لديه، ركيزة اساسية للتأمل بالمستقبل اضافة الى العوامل السياسية الاجتماعية – إن توفرت- فيخبر بصراحة بأن الاموال النقدية متوفر القليل منها لنصمد على حد توصيفه “فلا نشتري اكثر من اموالنا” مطالباً بأسرع وقت بالحلول.
الاتكال على بضائع الخارج التي تكلف تذكرة السفر والاقامة بالنسبة الى بعض اصحاب المحال كلفتها اقل من شراء البضاعة اللبنانية او التصنيع، خصوصاً ان عدداً من اصحاب المحال التجارية لديهم مصانع رديفة مثل طوني (كسروان ) الذي يغطي نقص التصنيع لبنانياً بـ 60% بضاعة تركية من الملابس. التنافس بين البضاعة التركية واللبنانية على مصراعيه وفق منطق طوني اذ ان اللبنانية لم يعد لديها مقومات للنهوض بسبب الغلاء الفاحش الا انه بكل الاحوال يسعر بالدولار. هكذا يحسم المسألة منذ ما قبل موسم الميلاد مؤكداً أنه “لم يعد هناك مواسم اعياد. انتهت… ولا حسومات بسبب سعر الصرف” وبحسب مراقبته لحركة السوق اليومية فذوو الدخل المحدود الذين ما زالوا يتقاضون رواتبهم وفق سعر الصرف الرسمي، غير قادرين على شراء قطعة ملابس ملتمساً ذلك من الامتعاض، فلم يعد هناك قطعة بمئة الف ليرة اي ما يعادل 5 دولارات. يفرز طوني الزبائن فمالك الدولار يبحث عن الموضة اما ابن الليرة فينكب على المخزّن من البضائع.
زميله في الشارع فؤاد لم يبدل الا قليلاً من بضائع العام المنصرم فاكتفى بتبديل الصيفي بما كان قد موّن به متجره من ملابس السنة الماضية التي ضربت بسبب كورونا سائلاً: “كيف سابيعها مع سعر الصرف هذا؟”. يملك فؤاد ايضاً مصنع احذية متوقفاً عن العمل ويبيع ما صنعه سابقاً باقل من كلفته الا ان همه ان يبيع منتقداً الذين تحولوا الى “صناع نايلون” بسبب هذا الظرف الاقتصادي. ويعتبر ان التجار يدفعون كلفة الاستمرارية باهظاً فالزبون اللبناني من يحدد السعر مشبهاً ذلك كالذي يبدل ورقة مئة دولار اليوم بسعر صرف قديم. اما من يستمر في تصنيع الاحذية بمعايير عالية كـ روجيه (ادونيس) غير قادر على أن ترد الأحذية الموزعة فاتورة المولد التي تتخطى الـ8 ملايين ليرة.
مهمة التسعير التي تحولت لدى التجار الى مهمة مستحيلة تشكل في المتن مصدر بلبلة وشربل أنموذج عن ذلك فتبدأ من الرأسمال ونزول، ولا يمكن زيادة ارباح الا واحد بالمئة. هذه الاستمرارية التي تقض مضجع التجار الذين يمتهنون تلك المهنة لا يمكن انهاؤها بهذا الشكل على حد تعبيره لاجئاً في بعض الاحيان الى “الحسومات وحرق الاسعار” قائلاً “لا يمكنني ان اقول للزبونة ان سعر الفستان 5 ملايين ليرة فتهرب”. جانين زميلته في الشارع المتني، الذي يجذب رواداً من كل المناطق، تعرف سلفاً ان زبائنها “هشلوا” وما صنعته وتعرضه في صالتها كآخر جيل من تصميمها، هي التي بدأت هذه التجربة منذ عام 2009 كمبادرة ناشئة.
ينسحب الامر الى جبيل، فيشرح رئيس جمعية تجار جبيل فوزي صليبا ما يحصل في الاسواق عامة رابطاً اياها بسياسة الدولة ككل. وبحسب خبرته لاسعاف التجار لا بد من القروض ليتحرك السوق خصوصاً ان اموال التجار مجمدة في المصارف مما يمنعهم التجديد لذا تصح معادلة جود من الموجود اي التصريف. يفسر صليبا حركة البيع باقل من الكلفة بان التجار في السنوات الماضية ربحوا والنظر الى المسالة عمودياً هي عملية تعادل.
أين الصناعيون من انتشار بضائع غير لبنانية؟
يعتمد صناعيو القطنيات جان ميشال مخباط (مصنعه الاساسي في يسوع الملك كسروان) الذي يمتلك سلسلة محال موزعة على كل المناطق معادلة التصنيع على مقياس مليوني مستهلك لبناني معتبراً ان اولويات ما تبقى من اللبنانيين لا تتضمنها الملابس. معمل مخباط يعد من المصانع الكبيرة القليلة التي تنتج بنفسها مستخدمة القطن وهذا العام الاتكال كان يصب على مخزون المواد الاولية وعندما تنتهي في ظل غياب الرؤية والسياسة الصناعية سيتأزم الوضع مما سينعكس تلقائياً على الاسعار في المتاجر المخصصة له. الا ان السؤال بنظره هو مسألة استمرارية خصوصاً انهم يصنعون القماش وكل ما يلزم في لبنان عدا عن الخيطان القطنية المستوردة. مخباط يخبر بحزن كيف توقف التصدير الى المانيا الذي كان يناهز نسبة 70% وسبب توقف التعامل معهم خوّفهم من مستقبل الانتاج.
هذا الخوف الاكبر ينصبّ على المصانع الصغيرة كما يخبر مصدر من جمعية الصناعيين اذ كلما كبر المصنع كلما كانت لديه امكانيات اكبر للتوسع واستيراد مواد اولوية اما الصغار فمحصورين لذا يقفلون الواحد تلو الآخر. والحل سياسة صناعية مستغنياً عن دعم الدولة التي لا تتصرف حتى مع كل جهد جمعية الصناعيين. ويخبر كيف ان المئة مليون دولار التي كانت خصصتها الحكومة السابقة للصناعة كدعم لم يستخدم منها الا 16 مليوناً لصعوبة آلية التطبيق فلم يستفد منها احد. تردي احوال المصانع الصغرى التي تموِّن المحال مرتبط ارتباطاً وثيقاً بوضع المصارف وتوقف القروض التي من دونها على حد تعبيره ستصبح عملية الانتاج لهذا الفصل او لغيره، فلا تملك القدرة جميعها على تأمين المواد الاولية الا من السوق السوداء وتلك تحتاج الى “كاش”.
غياب خطة طويلة الامد كسياسة اقتصادية صناعية ظهّر الازمة المتبلورة اليوم على حد اختصار رئيس تجمع صناعيي المتن شارل مولرـ فالفرح بالغاء الجمارك وتوقيع الاتفاقيات مع كل الدول كانت ايجابية على تلك الدول لا على لبنان لذا كان يجب التركيز على التصدير لادخال العملة الاجنبية بتمكين الصناعة اللبنانية من منافسة الخارج وتشجيع المستثمرين الاجانب لتوظيف اليد العاملة اللبنانية في ظل بطالة 60% من الشباب اللبناني. يقترح مولر فرض رسوم تكافؤية وسياسة جمركية جديدة يكون الهدف منها مكافحة الاغراق، اي دخول بضائع من كل الدول، وهي اقل من كلفة التصنيع في لبنان واعادة النظر بالاتفاقيات بشكل الحفاظ على مصلحة اللبنانيين، فتراعي المؤسسات الصغيرة اذ ان فقط من يصدر من لبنان يفعل بـ50% فقط من القدرة وهو المستمر في عمله فعلياً.
مع شحّ الصناعة اللبنانية في المتاجر واقفال ابواب عدد كبير منها، بالتالي المصانع المرتبطة بها تقلص عملها، لن يبقى امام اللبناني، المعروف باناقته في العالم، محرجاً بذلك اشهر مصممي الازياء، الا ان يعتمد على قدرة مشاهير الصناعة لتجذب الاستثمارات الاجنبية علّها تعيد النفس الى اليد العاملة لتأكل. ليس اكثر.