الوضع السوريالي في لبنان يزداد تراجيدية. والوقت حان لأن نخجل من «إستلشاق» قوى داخلية بمصير البلد مقابل اهتمام قوى خارجية وتحركها الملح، أقله للحؤول دون الإنزلاق الى حرب مدمرة. وعلينا أن نخجل أكثر حين يصبح التحرك لملء الشغور الرئاسي نوعاً من شغل سفراء في بيروت يعملون لإقناعنا بانتخاب رئيس سيقدمون له أوراقهم الديبلوماسية. فكيف اذا كنا نسمع من يقول لنا: إنسوا الرئيس والجمهورية معاً، فأنتم في لبنان آخر نحن أسياده وحماته، ولولانا لسيطرت عليه إسرائيل او «داعش»؟ وكيف اذا صار علينا التسليم بأن فتح جبهة الجنوب لمساندة «حماس» في حرب غزة مسألة لا بد منها مهما تكن الأخطار على البلد والأذى الذي يمكن ان يلحق به من دون تخفيف ضغط العدو على «حماس»، وحتى لو أفاد المنظمة الفلسطينية على حسابنا؟ وهذا ما حدث على مدى عقدين من «تجنيد» لبنان كمنصة لممارسة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية حرب الوصول الى اعتراف أميركي وتسوية مع إسرائيل تحت عنوان التحرير بالكفاح المسلح. ولا يبدل في الأمر إعلان «المقاومة الإسلامية» أن ما تقوم به هو لمصلحة لبنان وفلسطين. فالمسألة هي تحديد المصلحة الوطنية في لبنان. والمشكلة هي الخلاف الى حد التناقض في التحديد. المصلحة الوطنية منذ الإستقلال عام 1943 كما سجلها آباء الإستقلال هي»الحياد بين الشرق والغرب، والإفادة من النافع من الشرق والغرب». وهي بالطبع الإستقرار والأمن القومي والإقتصاد الحر والحريات الديمقراطية، ومع العرب في الإجماع وعلى الحياد في الخلاف». وليس أمراً قليل الدلالات تصنيف لبنان «دولة مساندة» أيام «دول الطوق والمواجهة» والمد القومي والعمل لتحرير فلسطين بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر. أما المصلحة الوطنية بالنسبة الى «المقاومة الإسلامية» فإنها ضم لبنان الى «محور المقاومة» بقيادة إيران. الحفاظ على سلاح المقاومة من اجل مهام هنا وفي الإقليم. الإمساك بكل مفاصل السلطة لخدمة المقاومة التي تنفرد بقرار الحرب والسلم. وبهذا المعنى، فإن تعطيل الإنتخابات الرئاسية «مصلحة وطنية». والذهاب الى حرب مع العدو بلا رئيس ولا حكومة فاعلة هو «مصلحة وطنية». أين؟ في «لبنان آخر». وخطة التعطيل واضحة، وإن أريد لها ان تبدو ملتبسة. فريق التعطيل يصر على مرشح لا يستطيع إنتخابه، ولا أن يجمع له تأييد كتل نيابية رافضة. لكن المطلوب عملياً ليس تخلي هذا الفريق عن مرشحه، إلا في حال الإستعداد للتفاهم على مرشح وفاقي. المطلوب هو التراجع عن تعليق الدستور ودعوة رئيس المجلس النيابي الى جلسة إنتخابية بدورات متعددة من دون تعطيل النصاب حتى التوصل الى انتخاب مرشح ضمن تنافس ديمقراطي كان في الماضي من طبيعة الإنتخابات الرئاسية. وليس هذا ما يريده محور التعطيل، ولا ما يستطيع الملحون على ملء الشغور فرض العودة اليه. قبل شهور قال السيد حسن نصرالله: «قد تصبح حزباً إقليمياً، لكنك تبقى في لبنان حزباً مشاركاً في حياة سياسية». وهذا كل المطلوب من «حزب الله» الذي صار قوة إقليمية بالفعل، لكنه يرفض التصرف في البلد كمشارك في الحياة السياسية، لا كممسك بالقرار السياسي في كل شأن، ومتفرد بالقرار العسكري، ومرتبط بقيادة الولي الفقيه في طهران. ومهما أوحى أنه مرن في أمور غير أساسية، فإنه في البداية والنهاية مثل كل الفصائل المرتبطة بإيران والتي ينطبق عليها بيان منظمة بدر في العراق القائل: «موقف بدر من الجمهورية الإسلامية منطلق من وحدة العقيدة والولاية والمرجعية والإرتباط المصيري وفتاوى مراجعنا بوجوب الدفاع عنها لأنها أمل المستضعفين». لكن تغيير الهوية التاريخية للبنان مهمة مستحيلة تحت عنوان مستحيل هو تصحيح التاريخ فالممكن هو تدمير لبنان لا تغيير تركيبته. وآخر ما ينجح في لبنان القائم على الحريات وحتى الفوضى، هو وضعه داخل ما سماها محمد أركون «السياجات الدوغمائية».