مجتمع قضية
أُنشئت المكتبة الوطنية في الأساس لأجل روادها قبل أي شيء آخر. لكن «الحسابات اللبنانية»، على ما يبدو، تعوق وظائفها. لروادها شكاوى عديدة، من الدوام القصير والعطل الكثيرة، إضافة إلى ملاحظات تقنية أخرى. لكن القائمين عليها يعللون الأمر بتأخر المراسيم، وبالذرائع البيروقراطية المألوفة
كانت الساعة تشير إلى ما بعد الثانية ظهراً بقليل. عملياً، وَفق حسابات أهل المدينة، مرّ أكثر من ساعة على موعد صلاة الظهر. لذا، بدا مستغرباً أمام طالبتي كلية الإعلام أن تكون أبواب المكتبة الوطنية اللبنانية في الصنائع موصدة أمام العامة في مثل هذا الوقت وفي يوم أسبوعي عادي. صحيح أن فرضية «وقت الصلاة» لا تنسحب على الجميع بالنظر إلى هوية المنطقة ديموغرافياً، لكن ثمة مسجد قرب المكتبة، والمسجد لا يغلق أبوابه. صحيح أن المكتبة ليست داراً للعبادة، لكنها ليست مصرفاً أيضاً، ما يعني أن أبوابها المغلقة في مثل هذا الوقت تثير الاستغراب. لكنها فرضية تبقى قائمة في بلاد لا تزال الدوائر الرسمية فيها تقفل أبوابها عند الحادية عشرة صباحاً من كل يوم جمعة، والحديث يطول عن الدوائر الرسمية. كذلك فإننا، بطبيعة الحال، لسنا بحاجة إلى مزيد من المصارف. ما نحتاج إليه، أن نفهم لماذا تغلق المكتبة الوطنية باكراً إلى هذه الدرجة.
تبين للطالبتين أنّ الصرح التراثي الذي دُمج بعناصر معمارية حديثة، «مقفل خلال العطلة الصيفية»، كما أكد حارس الأمن. وحسب الأخير، فإن المكتبة ستفتح مطلع أيلول المقبل «من الثامنة والنصف وحتى الواحدة والنصف حسب الدوام الرسمي». نضحك، فيؤكد لنا أن الأمر ليس مزحة كما نفترض: «إيه الدوام للوحدة ونص. ولا نفتح أيام السبت والآحاد». وبجدّية مشابهة، يؤكد المدير العام للمكتبة، حسّان العكرة، ما قاله حارس الأمن: «شهر آب عطول فرصة. كل مكتبات العالم بتسكر بآب. بيروت بتفضى وما في جامعات ولا مدارس». وحسب معطياته: «المكتبة ليست عامة»، وقد صُممت لتكون «مكتبة وطنية تحفظ إرثنا الثقافي»، لينسف بذلك أحد أسمى أهداف المشروع التي وُضعت بالاستناد إلى «أحدث المفاهيم حول دور المكتبات العامة في العالم». والمفارقة أن المفاهيم نفسها دافع عنها العكرة بشدة في بيان سابق نُشر أواخر العام الماضي، في معرض رده على مقال نقدي للشاعر عقل العويط في صحيفة «النهار»، صوّب فيه الأخير على أداء المكتبة عموماً.
نعود إلى دوامات العمل. يصرّ العكرة على موقفه: «هيدا قانون كل المكتبات العامة»، محيلاً في ذلك على المكتبة الوطنية الفرنسية والمكتبة البريطانية «اللتين تقفلان أيضاً في آب»، حسب وجهة نظره، خلافاً لما تشير إليه إرشادات موقعيهما الإلكترونيين. ويتحدث عن استثمار إدارة المكتبة لأيام العطلة «لكي يتسنى لنا تعقيم الكتب، رشّ المبيدات وصيانة نظام الأمن الداخلي في المكتبة»، على اعتبار أن إنجاز هذه الأعمال غير ممكن بعيد دوام العمل الذي ينتهي، طوال أشهر السنة… عند الواحدة والنصف ظهراً! نتحدث هنا عن مكتبة يفترض أنها شيدت للعموم قبل أي شيء آخر، لكنها تقفل أبوابها في وجوههم قبل أن تنتهي الدوامات المدرسية والجامعية.
ينتظر العكرة مرسوم تشكيل أعضاء مجلس إدارة المكتبة الذين جرت تسميتهم في 2018
للقصة بقية. سرعان ما يبيّن رئيس مجلس إدارة المكتبة المعين في آذار 2018، إذ برّر الدوام الاستنسابي، أولاً، بغياب المراسيم التطبيقية التي يفترض أن تتحدد وفقها أعداد الموظفين، دوامات العمل وآلياته، فضلاً عن كل ما يتصل بنظام الإدارة الداخلي. وانطلاقاً من ذلك، يقول العكرة إنه «ملزوم بالدوام»، إذ إن المكتبة لديها «موظفان اثنان فقط يعملان براتب متدنٍّ»، في ظل غياب المرسوم الذي يحدد موازنة المكتبة «المنفصلة عن موازنة وزارة الثقافة». «كتر خيرن. قدرنا نمون عليهن»، يضيف. ومن بين المراسيم المنتظرة أيضاً، يتحدث المدير العام للمكتبة عن «مرسوم تشكيل أعضاء مجلس إدارة المكتبة الستة»، الذين سبق أن جرت تسميتهم في نيسان 2018 (تنفيذاً لمرسوم رقم 3061 الصادر عام 2016)، وفق نظام المحاصصة الطائفية. إلا أن المرسوم تأخر في الصدور نتيجة «الإجراءات البيروقراطية في الدوائر الحكومية التي تؤخر إنجاز المعاملات». وهو تنظيم إداري ينطبق على المكتبة الوطنية التي «تخضع حصراً لوصاية وزير الثقافة»، لا لوزارة الثقافة، حسب قوله، قبل أن يوضح أن النهوض بالمكتبة عموماً مرتبط، في هذه المرحلة، بالتمويل «من خارج نطاق الدولة».
«هدوء نسبي»
لا يمكن القول إن الانطباعات التي تشكلت في ذهنية رواد المكتبة سلبية بالمطلق. إذ يؤكد البعض ممن حاورتهم «الأخبار» أنّ الصرح الأليف يواتي بصرياً ما تمثله المكتبة، بوصفها صرحاً وطنياً ثقافياً يتضمن نتاجاً فكرياً لبنانياً وعالمياً. وبرغم التجهيزات الحديثة والتصميم الداخلي الدقيق، يتحدث هؤلاء عن عقبات شكلية وأخرى جوهرية، تمخضت عنها في النهاية «مكتبة بقاعات واسعة وبتجهيز جيد، ولكن أحياناً يجيب بعض الزوار على هواتفهم، بينما يعمل الآخرون». وخلافاً لما تقتضيه الأهداف العامة للمكتبة من «تلبية الحاجات الثقافيّة والعلميّة للجمهور» – وهي أهداف محددة وفق معايير وزارة الثقافة – يتحدث هؤلاء عن انفصال الكتب بصرياً عن القراء في القاعات، ليبدو الصرح كـ«مبنى تراثي أقرب إلى متحف يُمنَع فيه الناس من اللمس».
ثمة أرشيف كبير في المكتبة يناهز 300 ألف وثيقة، لكن الاستفادة منه محدودة
كذلك، تفيد المعطيات بأن استفادة العامة من أرشيف المكتبة الكبير (قرابة 300 ألف وثيقة) محدودة، في ظل غياب آلية الاشتراكات الشهرية أو السنوية المتاحة في أغلب المكتبات العامة العالمية، فضلاً عن عدم وجود ماكينات تصوير. وإثر العقبة الأخيرة، «يعمد البعض إلى تصوير الصفحات بهواتفهم النقالة التي تصدر ضجيجاً يفوق أحياناً صخب كثيري الكلام غير الملمّين بقواعد المكتبات»، كما يقول رواد، من دون أن يلغي أن رواداً آخرين يثنون على «جهود الموظفات المتعاونات جداً اللواتي غالباً ما يشعرن بحرج عند تلقيهنّ شكاوى في هذا الإطار». وبمعزل عن غياب نظام المكتبة الرقمي للعامة، وحصر أنظمة إدارة المكتبة إلكترونياً بموظفيها المعدودين، يستغرب آخرون أسئلة عامل السيكيوريتي الذي يستقبل الداخلين بأسئلة وجودية: «لوين فايتين وأيّا ساعة فالين؟».
مشروع النهوض بالمكتبة
لا تنفي المديرة التنفيذية لمشروع النهوض بالمكتبة الوطنية، جيلنار عطوي سعد، المشاكل التي «يمكن تلمسها من الناس» وشكاواهم «المحقة غالباً». لكنها شكاوى تشدد سعد على أهميتها في ضوء «سعينا لتطوير الخدمات وتحديثها بما يتلاءم مع تطلعات رواد المكتبة أولاً»، في حين أن ضمان حسن التسيير في كافة المجالات «مرتبط بإصدار المراسيم المنشئة لمجلس الإدارة»، وهو ما لم يحصل بعد نتيجة «تعقيدات بيروقراطية». في مقابل ذلك، تتحدث سعد عن سعي الإدارة إلى تنمية موارد المكتبة ضمن مسمى «الإيداع القانوني». وفي هذه المرحلة، يتواصل فريق العمل مع دور النشر «لتزويد المكتبة بنتاج الفكر الذي فُقد أثره خلال سنوات الحرب»، منوهة بتفاعل الدور «التي باتت ترسل لنا نسختين عن كل إصدار لحفظهما في المكتبة». على صعيد الاتفاقيات، تتحدث سعد عن إنجاز اتفاقية التعاون مع المكتبة الوطنية الفرنسية في مطلع أيار الماضي، التي «أشرفت على على حسن سيرها شخصياً»، بانتظار التوقيع الرسمي لـ«اتفاقية جديدة مع المكتبة الوطنية البريطانية».
لمحة عامة
في 1919 أسس المكتبة الوطنية المؤرخ الفيكونت فيليب دي طرّازي (1956 – 1865). في عام 1921 انتقلت المكتبة إلى بناية المدرسة البروسيوية المعروفة بمدرسة «الدياكونيس» في وسط بيروت. في زمن الحرب، تعرّضت محتوياتها (قدرت بنحو 200 ألف إصدار بين كتب ووثائق ومخطوطات) للضياع والنهب قبل إغلاقها التام عام 1979. بين عامي 1982 و1983 نُقل ما بقي من الإصدارات إلى مستودع في قصر الأونيسكو، إلّا أنّ أضرار الحرب لحقت بها، ما أثّر سلباً في ظروف تخزينها. لاحقاً، حوّل مجلس الوزراء مبنى كليّة الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية في منطقة الصنائع إلى مقرّ للمكتبة، قبل انطلاق مشروع تأهيلها بموجب اتفاق مع بعثة المفوضية الأوروبية بتمويل قطري بين عامي 2005 و2007. وبعد تدشينها رسمياً أواخر عام 2018، أعيد إغلاقها شهراً كاملاً، ليُعاد افتتاحها أمام العامة بدءاً من مطلع العام الجاري.