IMLebanon

خيار وطني مؤلم

يتساءل كثيرون ما إذا أخطأ زعيم «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري بتبنّي ترشيح زعيم «التيار الوطني الحر» النائب ميشال عون لرئاسة الجمهورية، رغم معارضة نوّابه وتياره وجمهوره بسبب مواقف عون العدائية من الطائفة السنيّة ورموز «تيار المستقبل» وشخصيته المتوتّرة وتصرّفاته المتشنّجة وخطاباته المثيرة للغرائز الطائفية. ولماذا خطا هذه الخطوة الكبيرة التي تحمل في طياتها أخطاراً قد تهدد مستقبله السياسي لفقدان الثقة بكلام عون وتعهداته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى «حزب الله» وما قد يثيره من عراقيل في الحكومة التي من المفترض أن يترأسها الحريري نفسه ما لم تحصل تطورات غير محسوبة، الأمر الذي سيشل أعمالها أو يبقيها تحت رحمة سيفه المصلت عليها، وإسقاط الحزب وفريقه لحكومة الحريري الأولى ما زال ماثلاً للأعيان. وتساؤل هؤلاء نابع من خوفهم على الحريري ومن حبهم له.

وصحيح أن تكليف الحريري برئاسة الحكومة العتيدة هو شبه مضمون، إلا أن عملية تأليفها ستكون عملية شاقة ومضنية في ظل ما ينتظره من عقبات ومطالب من مجمل القوى السياسية وخصوصاً من «حزب الله» يصعب عليه تحقيقها. وإذا لم يتم التفاهم المسبق مع هذه القوى وفي مقدمها الفريق الشيعي على كل القضايا المتعلقة بالتأليف من أسماء الوزراء وتوزيع الحقائب الوزارية والبيان الوزاري والتعيينات الإدارية والمالية والعسكرية والأمنية الرئيسة، فإن الحريري سيواجه صعوبات كثيرة في تأليفها، خصوصاً أن هذا الفريق متمرس في العمل السياسي وخبير في الدهاء والمراوغة والمناورة. هذا في حال تمت معالجة معارضة رئيس مجلس النواب نبيه بري قبل مرحلة التأليف.

أما في حال لم يتم التوافق مع بري وبقي مستمراً في موقفه المعارض لعون ولتفاهماته مع الحريري فإن تأليف الحكومة سيكون عملية مستحيلة، لأن الحزب سيقف إلى جانبه ولن يقبل الاستفراد به خصوصاً أنه يمثل جزءاً ميثاقياً من المكون الشيعي. وفي هذه الحالة فإن تأليف حكومة لا تتمثل فيها القوى السياسية للطائفة الشيعية يشكل تهديداً حقيقياً للمشاركة الوطنية وللميثاقية والعيش المشترك ويؤسّس لفتنة طائفية ومذهبية قد تهدد مصير الوطن، ونحن على ثقة بأنّ الجميع يتجنّبون شرب الكأس المر إن لم يكن كأس السم.

ولا أعتقد بأنّ الأمور ستنحو في هذا الاتجاه إذ سيعمل عون والحريري على التفاهم مع بري وإدخاله شريكاً في التفاهمات الثنائية التي كثر الحديث عنها كي تصبح ثلاثية وربما أكثر حفاظاً على الميثاقية والمشاركة والعيش المشترك والاستقرار السياسي والأمني. ويقع على «حزب الله» دور كبير في إنهاء اعتراض بري الذي ليس بمقدوره البقاء خارج السلطة بعيداً عن نعيمها ومغانمها.

ونحن إذ نتفهم اندفاعة الحريري نحو إرساء تسوية تنقذ لبنان من أزماته السياسية والأقتصادية ويكون في صلبها انتخاب رئيس للجمهورية، إلا أننا نستغرب عدم تشاوره في هذا الموضوع مع بري الذي طالما ردد مراراً أنه مع الحريري ظالماً أو مظلوماً، وأن رئاسة الحكومة المقبلة يجب أن تكون برئاسته.

وفي رأينا أن أي تسوية يجب أن تكون بتقديم أطراف النزاع تنازلات مؤلمة والتقائهم في منتصف الطريق، ومبادرة الحريري الأخيرة هي إحدى هذه التنازلات. فهل تصب خطابات عون ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل الأخيرة في هذا الاتجاه، أم أنها فقط لتعبيد طريق الجنرال إلى بعبدا. وهل سيلاقي «حزب الله» المستقوي بسلاحه غير الشرعي تنازلات الحريري بتنازلات تعيد التوازن السياسي إلى الساحة الوطنية، أم سيُبقي على وتيرته التعطيلية برفع سقف مطالبه وخصوصأ تلك المتعلقة بالمحكمة الدولية والثلث المعطل وثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» وسلاحه وتدخله العسكري في سوريا وفي شؤون دول مجلس التعاون الخليجي.

يعيش لبنان من دون رئيس للجمهورية منذ عامين ونصف العام، ولم تعمل معظم القيادات السياسية الرئيسة بجدية على إيجاد حل للشغور الرئاسي المتمادي وتركت الأمور تراوح مكانها والبلد ينهار تدريجياً. ولم يقبل الحريري بهذا الواقع المرير فعمل بصدق وإخلاص على إنهاء الشغور من خلال اختيار قيادة من القيادات المارونية الأربع التي فرضها لقاء بكركي على اللبنانيين لاختيار واحدة منها. ولما لم ينجح في تسويق الدكتور سمير جعجع والرئيس أمين الجميّل والنائب سليمان فرنجية وقع الدور على النائب ميشال عون وهو القيادي الرابع في لقاء بكركي. وأهداف الحريري من مبادراته لملء الشغور الرئاسي استعادة الدولة لقرارها وعودة الانتظام إلى المؤسّسات الدستورية والفاعلية إلى الإدارات والمؤسّسات العامة والحركة إلى الدورة الاقتصادية.

وكان الحريري واضحاً في كلمته في بيت الوسط التي تبنى فيها ترشيح عون للرئاسة الأولى حيث تضمنت سرداً للوقائع والأسباب الموجبة التي دفعته إلى اتخاذ هذه الخطوة الجريئة التي وصفها بـ «المخاطرة السياسية الكبرى» التي ستريح البلد إذا ما تعاون الجميع على إنجاحها، واستعداده لتحمل تبعاتها السلبية في حال لم يلق تجاوباً من الآخرين. وكانت الكلمة مطالعة سياسية واقعية تخللتها مواقف وجدانية بقوله «لو أردت الثروة لما دخلت الحياة السياسية أصلاً وأنفقت فيها كل ما ورثت دفاعاً عن حلم مَنْ أورثني»، وقوله «إنّي أخاطر من دون أي خوف لأن خوفي الوحيد هو على لبنان».

هذا هو سعد الحريري إبن الشهيد رفيق الحريري الذي تعامل مع ملف الشغور الرئاسي بوطنية صادقة وحكمة وواقعية واضعاً مصلحة لبنان العليا فوق كل اعتبار ومتخطياً في قراره المؤلم معارضة شارعه وما تعرض له ووالده وطائفته من أذى من الذي تبنى ترشيحه للرئاسة.