ليست جميع الأحزاب بالفعل أحزاباً، وليست جميع الأحزاب فئة واحدة متشابهة، وليس كل من يعمل في السياسة الوطنية أحزاباً، كما إنه ليس كل من يتعاطى السياسة أفضل من الأحزاب، بعضهم او كُلّهم احياناً.
إن فرضية حشر الأحزاب جميعها في خانةٍ واحدة، هي الخطأ المُتعمَّد في هذه المرحلة، لا بل هي “التخبيصة” التي نشهد فصولها في هذا الزمن الرديء والمليء بزحمة شعارات وشعاراتٍ مضادة، صادرة عن مجموعات عديدة لها مُسمّياتٍ مدنية كثيرة، تفتقد للقضية الجوهرية العملية وللطرح الواقعي الواضح وللفكر المبدئي البنّاء، وللماضي النضالي، جُلَّ ما يحمل تحرِّكهم إبداع “بروباغندي إلكتروني” يتقدّمون به ليُشكِّل الحدث المركزي، غافلين بذلك أنّ لبنان مُهدَّد بالزوال حيث يتعرَّض للغزوات الرجعية والهمجية، ويُعتدى على عيشه الحُرّ من قبل فكر مُتحجِّر ومُتخلِّف، لتأتي المجموعات هذه تُقدِّم شخصياتها المموَّلة من مكان ما من أصقاع الأرض لطرح نفسها كبدائل، هادفةً من ذلك الى تحقيق مآرب شخصية وأمنياتٍ وأحلامٍ خاصة، على حساب النضاليين المدافعين عن الوجود.
لقد سها عن بال بعض المتحاذقين الحالمين بمجدٍ شخصي، المنزعجين من صمود بعض الأحزاب الوجودية النضالية، أنّ حاجة الأوطان للأحزاب كحاجة الإنسان للأوكسجين، فالإنسان بالعلم والتجارب العلمية وصل الى الكواكب البعيدة، واستغنى عن الكثير من الحاجيات لتحقيق ذلك، لكنه لم يستطع الإستغناء دقيقةً واحدة عن الأوكسجين، كذلك الأمر بالنسبة لإدارة البلدان. فقد يستطيع الطامحون الطامعون الناجحون في أشغالهم طرح افكار “عالموضة” لكنهم لن يستطيعوا الحلول مكان الأحزاب المُستعدِّة دائماً لتأدية دور الدفاع عن البلاد والحرّيات، الضامنة لإستمرار وطن الأرز، تلك الأحزاب التي اثبتت دائماً أنّها هي الخط الأحمر الحامي لأرزة الوطن.
إن حاجة لبنان لأحزابٍ مؤمنة ببقائه وإستمرار رسالته وعيشه الحرّ مسألة لا نقاش فيها طالما هناك مجموعات أمنية مُجنَّدة من مشاريع إقليمية ومُدجَّجة بأفكارٍ غريبة بهدف إلغاء لبنان وتغيير هويته، وتُغطي دورها الأمني وخدماتها الخيانية بإصطفافها تحت “أحزاب”. إن توسّع دور الأطراف المدنية المُنفصلة عن واقع وحقيقة المعركة الوجودية يؤدّي الى تأثير سلبي وخطير في الوقت الحالي لأنه يُضعّف جبهة النضاليين الوجوديين.
وما زال بعض المواطنين البريئين يقترفون الخطيئة بصراخهم بشمولية عدائية ضد كل الأحزاب من دون تمييز، ويترافق صراخهم هذا مع تسريبٍ مهني للعدائية الإنقلابية ضد الطبقة السياسية، حيث يقف خلف هذا العمل المُتقن مجموعةٌ من الشخصيات التي لا تملك فكراً نضالياً ودفاعياً عن الهوية اللبنانية، بل تماهى الكثير منها منذ بدايات الحرب الاهلية مع الحركة الوطنية حينها، والتي تعاونت دائماً مع التدخّلات الخارجية الهادفة لتغيير وجه لبنان الحرّ، أمّا اليوم فتتبنّي الحركات التحرّرية التي تستهوي عنصر الشباب الطموح فتستغل الطروحات النوستالجية لمحاولة إستثارة العقول الشبابية المنتفضة على الواقع الحالي والتي تفتقد للمعرفة والقدرة على تشخيص اسباب هذا الإنهيار.
إنّ البديل عن الأحزاب في ايّ مجتمع كان، هو الفوضى، وإنّ التيارات المدنية لم تكن يوماً بدائل إيجابية إلا عندما تنظَّمت في أُطرِّ الأحزاب والمشاريع الوطنية الحقيقية والصائبة، وإنّ الأداء الإتهامي الشمولي الذي تعتمده، هو عمل إنتخابي خداعي، ومحاولة لتنزيل نظرية معينة على الواقع، بدل العمل بجدّية وفعالية لإستنتاج الحلول من الواقع.
فلمن إنخدع سابقاً من اللبنانيين بتياراتٍ “مُتشخّصِنة” حذارِ الإنخداع هذه المرَّة بتحركاتٍ تحت مسمياتٍ مدنية، فمن كان ذخيرةً سابقاً للنفاق السياسي، يجدر به الحذر من ان يُستخدم مُجدّداً كفحمةٍ يُرسم بها لوحة سوداء جديدة من عمر الوطن المُعذّب، وعليه باختياره الحالي ان يسعى الى محاسبة المُخادعين ودعم المُحذِّرين منهم.
وبالنهاية، فأكثر التيارات المناوئة للأحزاب بتاريخ لبنان كان تيار ميشال عون، إبن المجتمع المدني والعسكري والرسمي، وها هو لبنان بإدارته يقع تحت اسوأ الظروف عيشاً إنسانياً، فهل المعاداة للأحزاب حينها أنتجت وطناً ونهايات سعيدة؟؟؟
امّا اليوم فمناوأة الأحزاب ومحاربتها “دوكما” من دون التمييز بينها، هما عمل من تخطيط جهاتٍ تحمل مشاريع إلغائية للبنان الرسالة وتحت عناوين مدنية وعلمانية برّاقة، يُصلح أن يُقال فيها من ضمن الواقعية والموضوعية “ما اغبى ذلك العلماني اللبناني الذي يتأمَّل الخير من مشروع “الحرس الثوري الإيراني” في لبنان”.
وأختم لأقول؛ هناك أحزاب وطنية تلعب دورها في الدفاع عن الوطن وسيادته، وهناك مجموعات أمنية ذات مشاريع خارجية وعقائدية لا تؤمن ببلدها وترفع راية “أحزاب”.