Site icon IMLebanon

بناء ثقافة السلام الوطنيّ

 

إنّ مشروع السلام هو مشروع عالمي تخطّى حدود الدّول ليطال الأمم والشعوب كافّة. والشعب أو الأمّة التي لا تسعى إلى السلام هي حتماً تسير بخطى ثابتة نحو الزوال. فهنالك اﺟﺰاء ﻛﺜﻴﺮة ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ بحاجة اﻟﻰ التّوصّل إلى ﻣﺴﺎرات ﺳﻼم ﺗﻘﻮد اﻟﻰ اﻟﺘﺌﺎم اﻟﺠﺮوح، وبحاجة أيضاً اﻟﻰ توافر ﺻﺎﻧﻌﻲ ﺳﻼم ﻣﺴﺘﻌﺪّﻳﻦ ﻟﻠﺸّﺮوع ﻓﻲ ﻋﻤﻠﻴّﺎت اﻟﺸﻔﺎء واﻟﺘﻼﻗﻲ ﺑﺒﺮاﻋﺔ وﺟﺮأة. وهذا ما نحن بحاجة إليه في لبنان. فهل ما زلنا نملك ترف الوقت لصناعة هذا السلام الدّاخلي؟ وهل باستطاعتنا في ظلّ هذه الانقسامات العموديّة أن نصنعه؟ وما هي السبل المؤديّة إلى ذلك؟

 

التلاقي المطلوب لا يعني حتماً العودة إلى مرحلة ما قبل الصراعات، وهذا ما يفرضه مَن يتباهون بأنّ أيديهم ليست ملطّخة بدماء اللبنانيّين في الحرب، بينما هم الذين سلموا رفاقهم للمحتلّ السوري ليطلق النار على رؤوسهم من الخلف، ويدفنهم في مقابر جماعيّة على مساحة الوطن. وهم أنفسهم رهنوا الوطن في ذلك السادس من شباط في العام 2006.

 

لقد تغيّرنا جميعنا مع الوقت. ومَن لم يستطع بعد أن يغيِّر نفسَه بنفسِهِ فهو حتماً ليس أهلاً بأن يحمل شعارات التغيير على مساحة الوطن. لأنّ ما غَيَّرَنا نابع من ألم داخليّ ومواجهات عقيمة أثبت الزمن أنّها إضاعة للوقت، متى كانت في غير محلّها، ومع الأشخاص الخطأ. كذلك الديبلوماسيّة الفارغة في الخطاب الوطني معطوفة على التمويه والخطاب المزدوج، والتستّر على الصفقات، ومحاولة إخفاء فضائح بحجم بواخر، فضلاً عن سلوكيّات حسنة في السطوح تخفي حقيقة جوهريّة في الأعماق؛ هذه كلّها لم تعد تنطلي على أسذج النّاس.

 

على هؤلاء كلّهم العمل على الشفاء من هذه الحالة المرضيّة التي صنّفناها سابقاً في كتاباتنا تحت حالة مرضيّة اصطلحنا على تسميتها: “الحقدولوجيا” التي باتت ثقافة تربويّة ينشّئون عليها الأجيال الطالعة التي ولدت بعد مرحلة الحرب البغيضة. وهذا ما لا يقبله أيّ عقل سليم. على هؤلاء كلّهم ان ﻳﺘﻌﻠّﻤﻮا ﻛﻴﻒ ﻳﻨﻤّﻮن ذاﻛﺮة ﺗﺴﺎﻋﺪﻫﻢ ﻋﻠﻰ التوبة، وتستطيع ﺗﺤﻤّﻞ ﻣﺴﺆوﻟﻴّﺔ اﻟﻤﺎﺿﻲ، ﻛﻲ ﻳﺤﺮّروا اﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞَ ﻣﻦ اي اﺳﺘﻴﺎء او ارﺗﺒﺎك او ﻧﻈﺮة ﺳﻠﺒﻴّﺔ.

 

ولأنّ ذلك تحقّق بشكل جزئيّ لم نستطع حتّى اليوم، وبعد انقضاء أكثر من نيّف وثلاثة عقود، على الانتهاء من الحرب البغيضة، أن نبني ثقافة وطن تسمح لنا ببناء جمهوريّة قويّة يركن إليها كلّ مواطن لبنانيّ على مساحة الـ 10452 كم2 أينما وجد. من هنا، يجب ألّا ﻧﺴﺠﻦ اﻵﺧﺮ ﻓﻲ اﻗﻮاﻟﻪ او اﻓﻌﺎﻟﻪ، وﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ ان ﻧﻌﺘﺒﺮﻩ وﻓﻘﺎً ﻟﻠﻮﻋﺪ اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻠﻪ ﻓﻲ ذاﺗﻪ. وهذا الوعد هو الذي سيؤمّن لنا عوامل صناعة السلام الدّاخلي الذي لم نعد نملك أيّ ترف لبنائه.

 

ولعلّ عدم نجاحنا في بناء هذا السلام يُعْتَبَرُ من أبرز أسباب الإنهيار الذي نعيشه اليوم في الصعد كافّة. فمن غير المقبول مثلاً في مباراة رياضيّة لمنتخبنا الوطني مع إيران أن يشجّع بعض اللبنانيّين المنتخب الإيراني متغاضين عن أنّ المنتخب اللبناني هو المنتخب الوطني. ونقيض ذلك يعني أنّ منتخب إيران بالنسبة إلى هؤلاء هو منتخبهم الوطني، وبالتالي إيران هي وطنهم.

 

أمام هذه الإنقسامات الدّاخلية سنبقى عاجزين عن صناعة هذا السلام الدّاخلي الذي يجب أن يبدأ من سلام الذات الشخصيّة. وهذا ما نلاحظ غيابه عند بعض الفرقاء في لبنان من خلال طرائقهم في التحاور مع الآخر المختلِف، حيث يحملونه على العودة إلى تاريخهم في الحرب الأهليّة لاعتقادهم أنّ ما قاموا به هو العمل المشرّف. في حين أنّ العمل الوطني الشريف والنزيه يكمن في الدّفاع عن لبنان وقت تخلّى مَن كان مِن المفترَض أن يدافع عنه، عن واجبه الوطني والأخلاقي. وهذا هو العمل الصواب والشرف والكرامة الوطنيّة تكمن هنا، وليس عكس ذلك كما يحاول بعضهم إشاعة هذا الخطاب. وما ﺣﺸﺪ اﻟﻘﻮى اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ لذلك إلا ﻷن ﻫﻨﺎك اﺷﻜﺎلاً ﻣﻌﻴّﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻼﻋﺐ اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ، ويظهر اﻧﻬﺎ ﺗُﺴﺘَﻐﻞّ ﺗﺄﻳﻴﺪاً ﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﺧﺎﺻﺔ.

 

ما نحن بحاجة إليه اليوم بالذات في لبنان هو بناء ثقافة السلام الذاتي للإنطلاق نحو السلام مع الآخر الذي لا يكون بالتباهي والاستعراض بفائض القوّة غير الشرعي، بل بالعودة إلى الحياة السياسيّة – الوطنيّة – الاجتماعيّة الطبيعيّة؛ أي بالعودة إلى الدّولة والمؤسّسات. ولا يكفي التذمّر والنقّ من دون العمل على تغيير حقيقي يجب أن يبدأ بالاعتراف الواضح بالخطأ الكياني الذي يعتري كيان هؤلاء على حساب كيانيّة الوطن خدمة لمآرب خاصّة.

 

وبعد هذا الاعتراف يجب الانتقال إلى الحيّز العملي الذي ينطلق من المشاركة الكثيفة في الانتخابات النيابيّة القادمة التي تعتبر وسيلة للتغيير الديموقراطي. وذلك لا يتحقّق إلا بالقضاء على عوامل التيئيس والتخويف والتدجين التي تنتهجها المنظومة الفاسدة بإدارة من المنظمة المسلّحة لإخضاع النّاس. وهذا ما ينسحب على اللبنانيّين جميعهم، مقيمين ومنتشرين في الأصقاع الأربعة. عندها فقط ننجح ببناء ثقافة السلام الوطني التي ستمكّننا من إعادة بناء الوطن على أسس متينة وصلبة تسمح له بالحياة لمئات ومئات من السنين القادمة.

 

وأيّ مكوّن حضاريّ أو سياسيّ أو اجتماعيّ يعمل عكس ذلك، فهو حتماً يسرّع خطوات انحلال الوطن، ويثبّت ثقافة الحقد والعدائيّة والكراهيّة بين اللبنانيّين جميعهم. وعندها على لبناننا السلام، فلنبحث عن لبنان آخر يشبه سلامنا الداخلي، ولهؤلاء وطنهم القائم على حقدهم وفوائض قوّتهم غير الشرعيّة من السلاح إلى الكبتاغون والتهريب وغيرها. اللّهم إشهد أنّي قد بلّغت!