وجدت مصر نفسها مطوّقة بالمآسي والديون والتحديات الأمنية والعزلة السياسية و90 مليون نسمة، فارتأت أن مصلحتها تقتضي استعادة الدور الإقليمي عبر البوابة الفلسطينية – الإسرائيلية، لا سيما بعدما تصالحت تركيا مع إسرائيل وعززت وجودها عبر «حماس» في غزة على الحدود المباشرة مع مصر. توجه وزير خارجية مصر سامح شكري إلى القدس هذا الأسبوع واجتمع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وتناول العشاء في داره وعقد مؤتمراً صحافياً مشتركاً معه في القدس، ما أثار غضب الناقدين للزيارة النادرة المفاجئة المحمّلة بالدلالات. العلاقة الثنائية بين إسرائيل ومصر منذ بدء عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي ممتازة، إنها علاقة في أفضل حالاتها. وما تردد في أعقاب زيارة شكري القدسَ هو أن هناك إعداداً لزيارة يقوم بها نتانياهو إلى القاهرة للمرة الأولى. أسباب التقارب المصري – الإسرائيلي كثيرة تشمل الشراكة في مكافحة الإرهاب في سيناء، لكن آفاق الاتفاق حول المسألة الفلسطينية ضئيلة جداً علماً أن السيسي يريد إحياء «المبادرة العربية للسلام» التي تبنتها قمة بيروت للدول العربية قبل أكثر من عقد، ونتانياهو يريد تعديل المبادرة العربية لتجريدها من عنصرين أساسيين هما: الانسحاب إلى حدود 1967 ومصير القدس. بالتالي، يُطرَح السؤال حول ما يمكن نتانياهو أن يحمله إلى القاهرة، إذا حصلت الزيارة. السؤال الذي يطرحه المعارضون للتحرك المصري يصب في خانة توقيت الزيارة والتقارب، لا سيما في الوقت الذي تنمو حملة مقاطعة إسرائيل من أجل الضغط على نتانياهو للموافقة على حل الدولتين وعلى إزالة الاحتلال وعلى إيقاف الاستيطان بالدرجة الأولى. الداعمون للتحرك المصري الذي أتى بالتنسيق مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، يشيرون إلى فوائد إنقاذ السلطة ودعمها في زمن تحييدها عمداً، بل وإبعادها، بقرار مسبق لمحور تركيا – إسرائيل – «حماس» . يقولون أيضاً أن مع التراجع الممنهج في مواقف الدول الكبرى والأمم المتحدة التي تمثلها «الرباعية»، ومع تجريد المبادرة الفرنسية من أنياب طرحها في مجلس الأمن الدولي، كان لا بد من حركة للاعب عربي بوزن مصر كي لا يغيب الدور العربي عن القضية الفلسطينية وكي لا يستمر انقراض الأرض تدريجاً ونهائياً.
القمة العربية التي تعقد في موريتانيا الأسبوع المقبل لن تصدر قراراً بمستوى قمة بيروت في شأن المسألة الفلسطينية، وربما غيرها أيضاً، إلا أن القمة يجب ألا تكون مناسبة للتورية على التحديات وعلى الصراعات وعلى الأزمات. المنطقة العربية في مأزق والاضطراب الإقليمي جدي وخطير. أوروبا منشغلة بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وتفكر في مَن هو مغادر ومتى، وما هو مصير الاتحاد. الولايات المتحدة منشغلة بانتخاباتها وخوفها من الإرهاب وقلقها من نمو التصادم بين البيض والسود. روسيا تتظاهر بالعظمة وهي تعاني من مشاكل اقتصادية، وتغرق في حرب مع الإسلام الراديكالي وهي محوّطة بالجمهوريات الخمس الإسلامية. تركيا تتخبط بعشوائية. وإيران تستدرك وهي تنظر إلى الخريطة الإقليمية والدولية، وتقرأ ما لا يعجبها على رغم «إنجازاتها» في العراق وسورية.
نظرت مصر إلى جيرتها وإلى المعادلات الدولية، فوجدت أن التقارب مع إسرائيل في هذا المنعطف يخدم مصلحتها. الأسباب الرسمية المعلنة هي أن مصر خشيت من تداعيات إخفاق لجنة «الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقررت أن تتصدى له بمبادرة تمنع الاستسلام للإخفاق. كذلك، رأت القاهرة أن المبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر دولي في شأن المسألة الفلسطينية لن توصل إلى نتيجة طالما أن الولايات المتحدة حاضرة وليست قائدة أو راعية لمثل هذا المؤتمر. اعتبرت الديبلوماسية المصرية ما تقدمت به الديبلوماسية الفرنسية مجرد بدعة بالذات بعدما خطفت كل وأي تحرك داخل مجلس الأمن، لا سيما ذلك الذي هدف إلى مجرد تأكيد حل الدولتين وقيام دولة فلسطين بجانب إسرائيل وتطبيق مبدأ القرار 242 على فلسطين علماً أن تطبيق ذلك القرار على مصر والأردن أدى إلى المفاوضات الجدية والتوصل إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل.
طروحات القاهرة لم تكن موفقة. تحدثت عن «السلام الدافئ» مع إسرائيل من دون أن تقدم المقومات والأسس الدائمة لمثل ذلك السلام. أوفدت وزير الخارجية إلى القدس، فأثار النقمة عليه لأن ما فعله شكري في القدس يضرب عصب «الثوابت القومية». اعترض على عدم قيام الأسرة الدولية بتحرك في مجلس الأمن، لكنه أغفل عمداً أن عضوية مصر في مجلس الأمن تمكنه من التحرك لو أراد ذلك جدياً وبمبادرة متماسكة ومفصّلة وحيوية. قفز على الاستيطان في الوقت الذي بدأ حشد المقاطعة في أوروبا وغيرها لتحدي السياسة الاستيطانية الإسرائيلية. تحرك للتطبيع بين مصر وإسرائيل على أساس النجاح في إحياء المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، لكنه فعل ذلك كخطوة بلا خريطة وكأفكار بلا آليات.
لا بد أن وراء الحسابات المصرية اعتبارات داخلية بحتة وذات علاقة بالعلاقة المصرية مع جيرانها ومع الولايات المتحدة. صحيح أن للتنسيق الذي تم قبل زيارة سامح شكري القدسَ وبعد الزيارة مع السلطة الفلسطينية، دلالة مهمة وجوهرية. إنما الصحيح أيضاً هو أن المحرك الذي أطلق حركة مصر بهذه الشدة كان في إقبال تركيا على المصالحة مع إسرائيل وتوكيل «حماس» لها راعياً لمصالحها على الحدود المصرية. فذلك صبّ في عصب المصلحة القومية وكان لا بد من استراتيجية لمواجهته، أو على الأقل التحرك بتكتيك يواجه تحديات المحور الثلاثي الإسرائيلي – التركي – الفلسطيني المتمثل في «حماس».
العوامل المصرية ذات العلاقة بالأمن القومي التي أدت إلى الشراكة مع إسرائيل، أمنياً، لدحضها شملت نمو الإرهاب في سيناء. هناك، ووفق مراقبين مطلعين، يحدث تعاون مصري – إسرائيلي لملاحقة الإرهابيين عبر التنسيق التكنولوجي والاستخباراتي. وهذا فائق الأهمية للحكومة المصرية التي تجد نفسها مهددة عبر البوابة الهشة في سيناء بقدر التهديد الآتي إليها عبر محور غزة. وفي هذا الإطار، ارتأت القاهرة أن اجتذاب إسرائيل نحوها سيقوّض وزنها في المحور الذي يضم تركيا و «حماس»، بل قد يسحبها منه إذا اختمرت العناصر الضرورية.
الاعتبار الآخر وراء الرغبة في تطبيع العلاقة المصرية – الإسرائيلية هو أن القاهرة ترى أن ممر وصولها إلى واشنطن هو إسرائيل التي تؤثر في صنّاع القرار في الكونغرس كما في الإعلام.
كل هذا لا ينفي ولا يتناقض مع الرغبة الصادقة لدى مصر في أن يحدث اختراق في المسيرة الفلسطينية – الإسرائيلية لا يكون على حساب السلطة الفلسطينية ولا على حساب الشعب الفلسطيني. مصر قادرة على لعب دور الراعي للعلاقة الفلسطينية – الفلسطينية إذا شاءت لها إسرائيل أن تفعل وهذا يقتضي أن يضحي نتانياهو بشراكة الأمر الواقع التي بناها في محوره مع تركيا و «حماس». فالكرة في ملعب نتانياهو في هذا المجال.
مصر قادرة على أن تكون المحرّك الرئيسي لإحياء المفاوضات العربية – الإسرائيلية والتوصل إلى سلام شامل ينقذ إسرائيل نفسها من عقلية الحصار. والأمر عائد إلى نتانياهو. فإذا اعتبر نفسه واحة الاستقرار في صحراء الاضطراب في الشرق الأوسط، لعل من مصلحة الإسرائيليين أن يوقظوه على احتمال أن يكون ذلك مجرد سراب. فليس في وسع إسرائيل، على المدى البعيد، أن تكون دولة طبيعية في الشرق الأوسط إذا كان بقاؤها قائماً على الاحتلال والاضطراب ولا استقرار الآخرين. إنه وضع شاذ يخدم تكتيكاً عابراً، لكن استراتيجية العيش الدائم في أمان لن ترى النور في ظل كل هذا الشواذ.
الرئيس السيسي لن يتمكن من تلبية مطالب رئيس الحكومة الإسرائيلية طالما أن نتانياهو يبالغ في «تعديل» المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل ببهلوانية تفريغها من الانسحاب إلى حدود 1967 مع الاستعداد للتأقلم الذي تقتضيه المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية من تبادل أراضٍ. لن يتمكن السيسي من تلبية حلم نتانياهو بإخراج القدس من المبادرة العربية للسلام تحت عنوان «التعديل» مهما تكررت زيارة المسؤولين المصريين إلى القدس للمحادثات أو للعشاء. الرئيس عبدالفتاح السيسي يستطيع أن يقدم إلى بنيامين نتانياهو فرصة «تعديل» مبادرة السلام العربية التي تنطوي على الاعتراف بإسرائيل فقط إذا صدق نتانياهو في رغبته في ذلك السلام وحل الدولتين.
مصر على حق في محاولتها إيقاف مسخرة «اللجنة الرباعية» بكل أعضائها. فهذه المهزلة التي مثّلها «مهرج البلاط» طوني بلير تزداد تدهوراً في دهاليز الديبلوماسية الخالية من القيم والأخلاق. تقريرها الأخير شهادة فاضحة على إفلاسها تمثّل في ذكر الاستيطان كعرقلة للمفاوضات فيما القرارات الدولية تصنّف الاستيطان غير شرعي وغير قانوني وفيما سياسة الاستيطان ترسخ أمراً واقعاً تلو الآخر يبدد حل الدولتين. حملة المجتمع المدني لمقاطعة إسرائيل إذا استمرت بالاستيطان تأتي صرخة ضمير حي في وجه انحطاط ضمير «الرباعية» وأطرافها أجمع.
والسؤال الذي يطرح نفسه وهو: أين الاستراتيجية العربية إزاء انحدار «الرباعية» الدولية؟ وأين الاستراتيجية العربية إزاء ما تفرضه إسرائيل بزعامة نتانياهو من أمر واقع يمحو أية حقوق فلسطينية. نعم، إن الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية مسؤولة عن جزء كبير مما آلت إليه الأمور إنما هذا لا ينفي المسؤولية العربية والدولية. ونعم، إن إسرائيل تبدو اليوم وحدها المرتاحة في خضم تمزق المنطقة العربية كلها وشرذمتها، إنما هذا الوضع اللاطبيعي لن يقدم للإسرائيليين الطمأنينة على المدى البعيد مهما تصوّر نتانياهو عكس ذلك. فالعبء يقع أيضاً على القاعدة الشعبية الإسرائيلية التي تفاخر بحقوق الديموقراطية والقدرة على تغيير المسار الخطأ. أما الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهي أيضاً تفضح نفسها وتعرّي مزاعمها بأن فلسطين أولوية لها، فهي شأنها شأن تركيا، تستخدم القضية الفلسطينية لمآربها الخاصة وتستغل الغياب العربي الفاضح عن المسألة الفلسطينية.
بقي «داعش» و «القاعدة» وأمثالهما وكلٌّ يضرب الاستقرار في المنطقة العربية ويساهم جذرياً في تخريبها وشرذمتها ويزعم ما يزعمه وهو يقدم أكبر خدمة لكل من تركيا وإيران وإسرائيل على حساب الدول العربية وشعوبها.
فإذا وجدت القمة العربية في موريتانيا نفسها جاهزة للتفكير الجدي في حال المنطقة العربية وجيرتها، عليها التوقف عن دفن الرؤوس في الرمال.